فقال ذلك العالم: يا سبحان الله، إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجر، فكيف يجوز قيام هذه الدّنيا على اختلاف أحوالها، وتغيّر أعمالها، وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع ولا حافظ؟! فبكوا جميعاً، وقالوا: صدقت وتابوا.
هذا القانون الذي سلمت به العقول وانقادت له هو الذي تشير إليه الآية الكريمة: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) [الطور: 35] وهو دليل يُرغم العقلاء على التسليم بأنّ هناك خالقاً معبوداً، إلا أن الآية صاغته صياغة بليغة مؤثرة، فلا تكاد الآية تلامس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها.
روى البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون - أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون - أم عندهم خزائِن ربك أم هم المصيطرون) [الطور: 35-37] كاد قلبي أن يطير ". (?)
قال البيهقي (?) : قال أبو سليمان الخطابي: " إنما كان انزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية، ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة، فاستدركها بلطيف طبعه، واستشف معناها بزكي فهمه ... ".
واختار الخطابي في معنى (أم خلقوا من غير شيء) [الطور: 35] " فوجدوا بلا خالق، وذلك ما لا يجوز أن يكون، لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر، فلا بدّ له من خالق، فإذ قد أنكروا الإله الخالق، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في الفساد أكثر، وفي الباطل أشد، لأنّ ما لا وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة، وكيف يخلق؟ وكيف يتأتى منه الفعل، وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً، فليؤمنوا به.