وهذا يُفسِدُ قول بَعْض متنقّصي السَّلَف والجاهلينَ بأقدارِهم: "طريقةُ السَّلَف أسْلَمُ، وطريقةُ الخَلَف أعْلَمُ وأحكمُ".
ولا يَخفى ما تَضَمَّنَت هذه المَقالةُ من الباطل عندَ العارفِ بعَقيدتِهِ ودينِهِ من أهل الإِسلامِ؛ إذ هي مبنيَةٌ على تفضيل الخَلَف -والمُرادُ بهم عندَ صاحب المَقالة: الَّذين امتازوا بمَعْرِفَتهم بالجَدَل وعلْم الكلام وكانَ لهم فيه قَدَمُ السَّبْق- على أخيار هذه الأمَّةِ، على السَّلف الكِرام: أصحاب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّابعين لهم بإحسانٍ، الَّذين لم يشتغلوا بالجَدلِ الباطلِ، ولا بالكلام المَذموم، وآمَنوا بما جاءَ عن الله على مُراد الله، وما جاءَ عن رَسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مُراد رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، الذين وقَفوا عن عِلم حين وقَفوا، وتكلَّموا بعِلْمٍ حين تكلَّموا، والَّذين لم يَعْرِف اللهَ تعالى أحدٌ معرِفَتَهم بعدَ رُسُلِهِ وأنبيائِهِ.
ولستُ أدري كيف يخفى فَسادُ المَقالَةِ على أحَدٍ تذوَّقَ طعمَ العِلْم، أو كانَ عنده ذرّةٌ من وَرَعٍ، وإني لستُ أرى لهذا القائلِ شَبَهاً إلاَّ بالرافضةِ؛ إلاَّ أنَّهُ لمَّا كَانَ أشعريّاً -اعتادَ على طريقةِ أصْحابهِ التقيّة في كِثير من المَسائل- زَيَّنَ مقالَتَه بوَصْفِ طريقة السَّلَف بالسَّلاَمةِ، وغفلَ المسكينُ حبث وصفَ الخَلَفَ بالعلم والحكمة أنَّه شبّه السلفَ بالصُّمِّ البُكْمِ الذين لا يَعقلون؛ لأنَّهم على تفسير هذا المُبطل كانوا عاجزين عن نيل العلم والحكمةِ التي حصَّلَها هو وأشباهُهُ، فكانوا يحمِلون القرآنَ والسُّنَنَ ولا يدرون ما فيها؛ لأنَّهم لم يقدروا على التأويل، ولم يتورَّطوا في التعطيل، وهذا المُبْطل وأشباهُهُ خاضوا البحر الذي وقفَ عنده السَّلَفُ، فعَلِمُوا من الأسرارِ والحكمةِ ما لم يَدْرِهِ السَّلَفُ؛ فبهذا كانوا الأعلمَ والأحكمَ!