التَّطْرِيبِ بِالْأَلْحَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ الْإِنْشَادَ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مُشَابَهَتَهُ الزَّمْرَ بِمَا كَانَ فِي الْغِنَاءِ الَّذِي فِيهِ اخْتِلَافُ النَّغَمَاتِ وَطَلَبُ الْإِطْرَابِ فَهُوَ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ وَقَطْعُ الذَّرِيعَةِ فِيهِ أَحْسَنُ وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْإِنْشَادِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ حَتَّى لَا يَخْفَى مَعْنَى الْبَيْتِ وَمَا أَرَادَهُ الشَّاعِرُ بِشَعْرِهِ فَغَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِي غِنَاءِ الْأَعْرَابِ وَهُوَ صَوْتٌ كَالْحِدَاءِ يُسَمَّى النَّصَبُ إلَّا أَنَّهُ رَقِيقٌ. اهـ.
(فَائِدَةٌ)
فِي الْبَزَّازِيَّةِ يُخَاصَمُ ضَارِبُ الْحَيَوَانِ لَا بِوَجْهِهِ لَا بِوَجْهِهِ إلَّا بِوَجْهِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَدَرِّبِ الْمُتَدَبِّرِ، وَالْمُتَتَبِّعِ الْمُتَّجِرِ أَنَّ فِي هَذَا إيمَاءً إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ تُضْرَبُ الدَّابَّةُ عَلَى النِّفَارِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْعِثَارِ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَوَّلًا لَا بِوَجْهِهِ عَائِدٌ إلَى الضَّرْبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ضَارِبٌ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أَيْ الْعَدْلُ فَمَعْنَاهُ حِينَئِذٍ يُخَاصَمُ ضَارِبُ الْحَيَوَانِ أَيْ يُنْهَى عَنْ ضَرْبِهِ حَالَ كَوْنِ ضَرْبِهِ لَا عَلَى وَجْهِهِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ بِأَنْ ضَرَبَ الدَّابَّةَ عَلَى الْعِثَارِ مَثَلًا لِأَنَّ الْعِثَارَ مِنْ سُوءِ إمْسَاكِ الرَّاكِبِ اللِّجَامَ لَا مِنْ الدَّابَّةِ فَيُنْهَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ضَارِبُ الْحَيَوَانِ عَنْ ضَرْبِهِ وَقَوْلُهُ: ثَانِيًا لَا بِوَجْهِهِ أَيْ لَا يُخَاصَمُ ضَارِبُ الْحَيَوَانِ إذَا كَانَ ضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِ الضَّرْبِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ بِأَنْ كَانَ ضَرَبَهُ عَلَى النِّفَارِ مَثَلًا لِأَنَّ النِّفَارَ مِنْ سُوءِ خُلُقِ الدَّابَّةِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ثَانِيًا لَا بِوَجْهِهِ عَائِدٌ إلَى الضَّرْبِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِضَارِبٍ أَيْضًا وَقَدْ أَشْبَهَ هَذَا النَّفْيُ مِنْ النَّفْيِ مَا وَقَعَ فِي الْكَافِيَةِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ حَيْثُ قَالَ: فَيُطَابِقُ فِيهِمَا مَا قَصَدَ إلَّا إذَا كَانَ جِنْسًا إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْأَنْوَاعَ وَقَوْلُهُ إلَّا بِوَجْهِهِ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إلَى الْحَيَوَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ حِينَئِذٍ الْعُضْوُ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّفْيِ الثَّانِي الَّذِي دَلَّ مَفْهُومُهُ عَلَى عَدَمِ مُخَاصَمَةِ ضَارِبِ الْحَيَوَانِ حَيْثُ ضَرَبَهُ مَثَلًا عَلَى النِّفَارِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ أَيْ لَا تَجُوزُ مُخَاصَمَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْ لَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إلَّا إذَا ضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ أَيْ عُضْوِهِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِنَهْيِ الشَّارِعِ عَنْ الضَّرْبِ عَلَى الْوَجْهِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الَّذِي قَصَدَهُ صَاحِبُ الْبَزَّازِيَّةِ مِنْ عِبَارَتِهِ الَّتِي أَغْرَبَ فِيهَا وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا كَذَا رَأَيْته بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ.
قَالَ فِي جَوَاهِرِ الْفَتَاوَى: لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بَرِئَ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا بِاجْتِهَادٍ لِمَا وَضَحَ لَهُ مِنْ دَلِيلِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْحِجَجِ لَمْ يَكُنْ مَلُومًا وَلَا مَذْمُومًا بَلْ كَانَ مَأْجُورًا مَحْمُودًا وَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْهُ وَهَكَذَا أَفْعَالُ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَانْتَقَلَ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَكِنْ لِمَا يَرْغَبُ مِنْ غَرَضِ الدُّنْيَا وَشَهْوَتِهَا فَهُوَ مَذْمُومٌ آثِمٌ مُسْتَوْجِبٌ لِلتَّأْدِيبِ، وَالتَّعْزِيرِ لِارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ فِي الدِّينِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِدِينِهِ وَمَذْهَبِهِ. اهـ.
وَنَقَلَ السُّيُوطِيّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِجَزِيلِ الْمَوَاهِبِ فِي اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ مِنْ فَصْلِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ وَهُوَ جَائِزٌ إلَى أَنْ قَالَ وَأَقُولُ: لِلْمُنْتَقِلِ أَحْوَالٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الِانْتِقَالِ أَمْرًا دُنْيَوِيًّا كَحُصُولِ وَظِيفَةٍ أَوْ مُرَتَّبٍ أَوْ قُرْبٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا فَهَذَا حُكْمُهُ كَمُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ لِأَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا ثُمَّ لَهُ حَالَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ عَارِيًّا مِنْ مَعْرِفَةِ الْفِقْهِ لَيْسَ لَهُ فِي مَذْهَبِ إمَامِهِ سِوَى اسْمِ شَافِعِيٍّ أَوْ حَنَفِيٍّ كَغَالِبِ مُتَعَمِّمِي زَمَانِنَا أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ فِي الْمَدَارِسِ حَتَّى أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ الْكَافِيجِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَرَّةً يَكْتُبُ لَهُ عَلَى قِصَّةٍ تَعْلِيقًا بِوِلَايَةِ أَوَّلِ وَظِيفَةٍ تَشْغَرُ بالشيخونية فَقَالَ لَهُ: مَا مَذْهَبُك فَقَالَ: مَذْهَبِي خُبْزٌ وَطَعَامٌ يَعْنِي وَظِيفَةً أَمَّا فِي الشَّافِعِيَّةِ أَوْ الْمَالِكِيَّةِ أَوْ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ فِي الشَّيْخُونِيَّةِ لَا خُبْزَ لَهُمْ وَلَا طَعَامَ فَهَذَا أَمْرُهُ فِي الِانْتِقَالِ أَخَفُّ لَا يَصِلُ إلَى حَدِّ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ إلَى الْآنَ عَامِّيٌّ لَا مَذْهَبَ لَهُ يُحَقِّقُهُ فَهُوَ يَسْتَأْنِفُ مَذْهَبًا جَدِيدًا ثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي مَذْهَبٍ وَيُرِيدَ الِانْتِقَالَ لِهَذَا الْغَرَضِ فَهَذَا أَمْرُهُ أَشَدُّ وَعِنْدِي.