الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة: 36) , وقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22) ، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذريات: 56) , ثم يقول أبو الوليد - وهو يبين اتفاق الأدلة النقلية والعقلية على المعاد-: "ولما كان الوحي فد أنذر في الشرائع كلها بأن النفس باقية، وقامت البراهين عند العلماء على ذلك، وكانت النفوس يلحقها بعد الموت أن تتعرى عن الشهوات الجسمانية فإن كانت زكية تضاعف زكاؤها بتعريتها عن الشهوات، وإن كانت خبيثة زادتها المفارقة خبثاً لأنها تتأذى بالرذائل التي كانت قد اكتسبت وتشتد حسرتها على ما فاتها من التزكية عند مفارقتها للبدن، لأنها لا يمكنها الاكتساب إلا مع هذا البدن، وإلى هذا المقام الإشارة بقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر: 56) , هكذا يقرر أبو الوليد: أن المعاد مما جاءت به الشرائع ونادت به الأدلة النقلية والعقلية بيد أن الموضوع لم يسلم من الاختلاف فيه، بل اختلفوا، ويمكن أن توجز اختلافهم في الآتي:
1 – هل ذلك الوجود الذي بعد الموت هو هذا الوجود بعينه، بمعنى أن ما في ذلك الوجود من النعيم واللذات متحد مع ما في هذا الوجود الذي قبل الموت، وإنما يختلفان في الانقطاع والدوام، أي أن ذلك دائم وهذا منقطع؟؟ !!.
2 – أن الوجود الجسماني الذي هناك مخالف لهذا الوجود، وإنما يتفقان في اسم الوجود الجسماني فقط، مع اختلاف الحقائق مستدلين بقول ابن عباس فيما روي عنه: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء". ويرى أبو الوليد أن هذا الرأي الثاني أليق بالخواص.
3 – ترى طائفة من الفلاسفة: أن المعاد روحاني فقط، وإنما مثل به لإرادة البيان، والعجيب من أمر ابن رشد أنه يرى أصحاب هذا الرأي لهم حجج كثيرة في الشريعة إلا أنه لم يذكر منها حجة واحدة مع دعوى الكثرة، وابن رشد يختلف مع الإمام الغزالي في هذه المسألة، إذ يرى الغزالي وجوب القول بمعاد الأجسام ويحكم بالكفر على من أنكر ذلك وقال بمعاد الأرواح فقط، وقد كفر الغزالي بعض الفلاسفة بهذا القول, كالكندي والفارابي وابن سينا إضافة إلى قولهم بأن الله يعلم الكليات فقط دون الجزئيات، وقولهم بقدم العالم وأزليته.
هكذا يتبين أن ابن رشد متساهل، بل متناقض في هذا الباب على خطورته بل ولم يقف عند التساهل والتناقض، بل إنه يذهب بعيداً إذ يعد هذه المسألة مسألة اجتهادية إذ يقول:
"والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظراً يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة، فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلوماً للناس بالشرائع والعقول".