ووجه الدلالة من هذا الكلام: أنه يقتضى أن قريشا كانوا نزولا مع قومهم من كنانة، حين انفراد غبشان من خزاعة بولاية الكعبة، والمنازل التى كانت تنزل بها كنانة وقريش إذ ذاك: خارج الحرم؛ لأن أول عربى نزل الحرم بقومه: هو قصى بن كلاب، على ما ذكره الفاكهى فى خبر قصى؛ لأنه قال:
وحدثنا الزبير بن أبى بكر قال: قال أبو الحسن الأثرم، قال أبو عبيدة، قال محمد بن حفص: «قدم رزاح، وقد نفى قصى خزاعة. وقال بعض مشيخة قريش: وإن مكة لم يكن بها بيت فى الحرم، إنما كانوا يكونون بها، حتى إذا أمسوا خرجوا لا يستحلون أن يصيبوا فيها جنابة، ولم يكن بها بيت قائم، فلما جمع قصى قريشا ـ وكان أدهى من رؤى من العرب ـ قال لهم: أرى أن تصحبوا بأجمعكم فى الحرم حول البيت، فو الله لا تستحل العرب قتالكم، ولا يستطيعون إخراجكم منه، وتسكنونه، فتسودوا العرب أبدا. فقالوا له: أنت سيدنا، رأينا لرأيناك تبع. فجمعهم، ثم أصبح بهم فى الحرم حول البيت، فمشت إليه أشراف كنانة، وقالوا: إن هذا عند العرب عظيم، ولو تركناك ما تركتك العرب. فقال: «والله لا أخرج منه. وثبت». انتهى.
ومن ذلك: قوله بعد ذلك ـ بعد أن ذكر ما رأى قصى ـ من أنه أولى بالكعبة، وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر ـ: «فكلم رجالا من قريش وبنى كنانة ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة. فأجابوه».
ووجه الدلالة من هذا: أن كلام قصى لكنانة، فيما طلب، وإجابتهم له: يقتضى قربهم منه فى الدار. وسيأتى إن شاء الله تعالى ما يوافق ذلك.
ومن ذلك: قول ابن إسحاق فى خبر قصى «فولى قصى البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة». انتهى.
ووجه الدلالة من هذا: أنه يقتضى أن قصيا جمع قومه إلى مكة، وكنانة من قومه، فيكونون ممن جمعهم إلى مكة.
ولا يعارض ذلك قوله ـ فى الخبر الذى ذكره الزبير «فمشت إليه أشراف كنانة، وقالوا: هذا عند العرب عظيم» ـ لإمكان أن يكونوا قالوا له ذلك ليرجع عن فعله، لكونهم لا يألفونه. فلما رأوه لم يرجع وثبت: سكنوا معه فيه، لما فى ذلك من تحصنهم، وبقاء الألفة بينهم وبينه، لما يخشونه من حصول ضرر بهم فى المفارقة فى افتراقهم عنه. والله أعلم.