ولقد ارتفع الإيمان بالحساسية المرهفة في قلوب العصبة المؤمنة، حتى بلغت تلك الدرجة التي أشارت إليها المقتطفات السابقة (ص 77) وأهلت الجماعة الأولى لقيادة البشرية قيادة غير مسبوقة ولا ملحوقة. ولكنها كالسهم يشير إلى النجم ليهتدي به من يشاء في معترك الشهوات! واللّه يعلم ضعف هذا المخلوق البشري، فيجعل الحد الذي يصلح به للقيادة، والذي ينال معه ما عند اللّه، هو اجتناب كبائر الإثم والفواحش. لا صغائر الإثم والذنب. وتسعه رحمته بما يقع منه من هذه الصغائر، لأنه أعلم بطاقته. وهذا فضل من اللّه وسماحة ورحمة بهذا الإنسان توجب الحياء من اللّه، فالسماحة تخجل والعفو يثير في القلب الكريم معنى الحياء.
«وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» .. وتأتي هذه الصفة بعد الإشارة الخفية إلى سماحة اللّه مع الإنسان في ذنوبه وأخطائه، فتحبب في السماحة والمغفرة بين العباد. وتجعل صفة المؤمنين أنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون. وتتجلى سماحة الإسلام مرة أخرى مع النفس البشرية فهو لا يكلف الإنسان فوق طاقته. واللّه يعلم أن الغضب انفعال بشري ينبع من فطرته. وهو ليس شرا كله. فالغضب للّه ولدينه وللحق والعدل غضب مطلوب وفيه الخير. ومن ثم لا يحرم الغضب في ذاته ولا يجعله خطيئة. بل يعترف بوجوده في الفطرة والطبيعة، فيعفي الإنسان من الحيرة والتمزق بين فطرته وأمر دينه. ولكنه في الوقت ذاته يقوده إلى أن يغلب غضبه، وأن يغفر ويعفو، ويحسب له هذا صفة مثلى من صفات الإيمان المحببة. هذا مع أنه عرف عن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب للّه، فإذا غضب للّه لم يقم لغضبه شيء. ولكن هذه درجة تلك النفس المحمدية العظيمة لا يكلف اللّه نفوس المؤمنين إياها. وإن كان يحببهم فيها. إنما يكتفي منهم بالمغفرة عند الغضب، والعفو عند القدرة، والاستعلاء على شعور الانتقام، ما دام الأمر في حدود الدائرة الشخصية المتعلقة بالأفراد.
«وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» .. فأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم. أزالوا هذه العوائق الكامنة في النفس دون الوصول. وما يقوم بين النفس وربها إلا عوائق من نفسها. عوائق من شهواتها ونزواتها. عوائق من وجودها هي وتشبثها بذاتها. فأما حين تخلص من هذا كله فإنها