ثم صَرَفَ العنايَةَ إِلَى بيانِ صفاتٍ أُخَرَ، فطَوَّل النَّظَر فيها، فقال: ووراء هذه ثلاثُ صفات:
إحداها: العدالةُ، فهي شرطٌ القَبُولِ الشهادة، قال الله تعالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] وقال تعالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقال عزَّ أسمه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والفاسقُ ليْسَ بمرضىِّ الحال، ورُويَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ وَلاَ زَانٍ وَلاَ زَانِيَةٍ" (?) والقولُ في أنَّ العدْلَ مَنْ هو يحتاج إلَى تقديم أصْلٍ، وهو أن المعاصِيَ تنقسِمُ إلَى كبائِرَ وصغائِرَ، قال الله تعالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}: [النساء:13] وقال تعالَى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [الشورى: 37] ثم قال الإِمام -رحمه الله-: مِنْ أئمَّتنا مَنْ يقول: لا صغيرةَ في الذُّنُوب، وهو اختيارُ الأستاذِ أبيَ إسْحَاق، والظاهر المشهور الأوَّلُ، ثم اختلفتِ الصحابةُ فمن بعْدهم في الكبائِرِ، وفي الفَرْق بينها وبيْن الصغائر، وللأصحابِ في تفسير الكبيرة وجوهٌ:
أحدها: أنَّها المعصيةُ الموجِبَةُ للحدِّ.
والثَّاني: أنَّها الَّتي يلْحَق صاحبَهَا الوعيدُ الشديدُ بنصِّ كتاب أو سُنَّةٍ، وهذا أكثر ما يوجَدُ لهمْ، وهم إلَى ترجيح الأول أميلُ، ولكنَّ الثاني أوفقُ لما ذكروه عنْد تفْصيل الكبائر.
والثالث: قال الإِمَامُ في "الإِرشاد" وغيره: كلُّ جريمةٍ تُؤْذِنُ بقلَّة اكتراثِ مرتكبها بالدِّين ورقَّةِ الديانة، فهي مبطلةٌ للعَدالة.
والرابع: ذكر القاضي أبو سعْدٍ الهرويُّ -رحمه الله- أن الكبيرةَ كلُّ فعلٍ نصَّ الكتابُ علَى تحريمه، وكلُّ معصيةٍ توجِبُ في جنْسها حدّاً من حبسٍ أو غيرِهِ وَترْكُ كُلِّ فريضةٍ مأمورٍ بها عَلَى الفوْرِ والكَذِبُ في الشهادة والروايةِ واليمينِ، هذا ما ذكروه على سبيل الضَّبْط، وفصل القاضي الرويانيُّ، فقال: الكبائرُ سَبْعٌ؛ قتلُ النفْسِ بغَيْرِ الحقِّ، والزنا، واللِّواطُ، وشُرْبُ الخَمْر، والسرقةُ، وأخذ المالِ غَصْباً، والقذْفُ وشُرْبُ كُلِّ