يبعد عن النجاسة بقدر قلتين، ثم يغترف؛ لأن ما دون القلتين مما يجاور النجاسة، لو كان وحده لكان مجتنباً، فكذلك إذا كان معه غيره، وأثره الكثرة دفع النجاسة عما وراء ذلك القدر، وقال مَنْ نصر المذهب: ذلك القدر المجتنب لو كان وحده محكوم له بالنجاسة في حالة الانفراد، فإما أن يكون محكوماً له بالنجاسة هاهنا أيضاً أو لا يكون، وإن لم يكن فقد تَغَيَّرَ حُكْمُهُ عما كان عليه وحده، وإن كان فلينجس ما يجاوره بمجاورته، كما ينجس هو بمجاورة النجاسة، وهكذا حتى تنتشر النَّجَاسَةُ إلى الكُلِّ.

لا يقال: هذا مائع، وذلك جامد، وحكم النجاسة الجامدة أخف، ألا ترى أن النجاسة المائعة لو وقعت في ماء كثير، وانغمرت فيه، جاز استعمال الكل، لأنَّا نقول: إذا كان حكم النجاسة المائعة ما ذكرتم، فنأخذ حكم الطهارة هاهنا أيضاً؛ لاتصاله بالماء الكثير، وحصوله فيه، لماذا كان طاهرًا واجب أن يجوز الاغتراف والاستعمال.

واعلم أن من أصحابنا العِرَاقِيِّينَ مَنْ حَكَى خلاف التباعد وجهين، ونَقْلُ القولين أثبت؛ فإن فرعنا على وجوب التباعد، فلا يكفي أن يبعد في البحر بقدر شبر على حد العمق في حساب القلتين، بل يتباعد بقدر القُلَّتَيْنِ في أبعاد متماثلة طولاً وعرضاً وعمقاً، فإن كان الماء في موضع لا يتأتى فيه ذلك، كما لو وقف في موضع مُنْبَسِطاً من غير عمق يتباعد فِي الطُّولِ وَالعَرْضِ قدر ما يبلغ قلتين في ذلك العمق.

وقال الإمام محمد بن يحيى (?) -رضي الله عنه- لا يغني التباعد بقدر قلتين في هذه الصورة؛ بل يبعد إلى حيث يعلم أن النَّجَاسَةَ لا تنتشر إليه كما يعتبره أبو حنيفة - رحمة الله عليه- في بعض الروايات في الماء الكثير، ولو كان الماء قُلَّتَينِ بلا زيادة فعلى الجديد: لا يجوز الاغتراف منه، وعلى القديم: يجوز ذلك في أصح الوجهين، كما في الحالة الأولى والثانية؛ لا, لأن المَأْخُوذَ بَعْضُ البَاقِي، والباقي نجس بالانفصال فكذلك المأخوذ، وينبغي أن يبحث عن القولين في مسألة التباعد، أهما في جواز الاستعمال وعدمه بعد الاتِّفاق على الطهارة، أم في الطهارة والنجاسة؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015