قَالَ الغَزَالِيُّ: (الفَصْلُ الثَّالِثُ فِي إِعْفَافِ الأَبِ) وَيَجبُ عَلَى أَشْهَرِ القَوْلَيْنِ أَنْ يُعِفَّ أبَاهُ الفَاقِدَ للمَهْرِ المُحتَاجَ إِلَى النِّكَاحِ وَالجَدَّ وإنْ عَلاَ فَهُوَ في مَعْنَى الأَبَ، فَإِنِ اجْتَمَعَ جَدَّانِ في رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَقْدِر إِلاَّ عَلَى إِعْفَافِ أَحَدِهِمَا أُقْرِعَ بَينَهُمَا عَلَى وَجْهٍ وَعَيَّنَ القَاضِي أَحَدَهُمَا عَلَى وَجهٍ، وَمَهْمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ صُدِّقَ بِغَيْرِ يَمِين لَكِنْ لاَ يَحِلُّ لَه بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى طَلَبُ ذَلِكَ إِلاَّ إِذَا صَدَقَتْ شَهْوَتَهُ بِحَيْثُ يَخَافُ الْعَنَتَ أَوْ يَشُقُّ المُصَابَرَةُ عَلَيْهِ، وَيَحْصُلُ الإعْفَافُ بِأنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّة أَوْ يُمَلِّكَهُ جَارِيَةً أَوْ يُسَلِّمَ ثَمَنَهَا إِلَيْهِ أَوْ مَهْرَ امْرَأَةٍ، وَلَيْسَ للأَبِ تَعْيِينُ امْرَأَة رَفِيعَةِ المَهْرِ، وَإذَا تَعَيَّنَ المَهْرُ فَتَعْيينُ الزَّوْجَةِ إِلَى الأَبِ، وَلَوْ مَاتَت فَعَلَيْهِ التَّجْدِيدُ، وإنْ فَسَخَ النِّكَاحَ بِعَيْبِهَا أَوِ انْفَسَخَ وَجَبَ التَّجْدِيدُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجِبِ التَّجْدِيدُ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَوَجْهَانِ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: هذا الفصل مشتمل على مسألتين:
المسألة الأولى (?): ظاهر المذهب أنه يجبُ علَى الابن إعفافُ الأب، ويُحْكَى ذلك عن نصِّه في "كتاب الدَّعاوَى والبينات" وفيه قول مخرَّج أنه لا يجبُ، وبه قَالَ أَبُو حَنِيْفَةَ وَالْمُزَنِيُّ، وُينْسَب هذا القولُ إلَى تخريج ابن خَيْرَانِ.
قَالَ الشَّيْخَانِ أبُو حَامِدٍ، وأبُو عَلِيٍّ قال ابن خيران: لَمَّا ذكر الشَّافعي -رضي الله عنه- في النفقات نفقةَ الأقارب، ولم يذكر الإعفافَ دلَّ على أن له قولاً أنه لا يجب، وهذا إشارةٌ إلى طريقة التخريج، ووجْهُهُ الإلحاقُ بإعفافِ الولَد، فإنه لا يجب على الوالد، وكذا لا يجب الإِعفافُ في بيْتِ الَمال، ولا عَلَى المسْلِمِين، ووجْه ظاهرِ المذْهَب أنَّ في ترك الإِعفاف تعريضاً للزِّنَا، وذلك لا يليقُ بحرمة الأبوة، وليس من المصاحبة بالمَعْروف، وقد قال الله -تعالى-: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] وأيضاً، فإن فوات نفْس الابن محتَمِلٌ لبقاء نفس الوالد، فأوْلَى أن يحتمل فواتَ ماله، ولو اترك إعفافَهُ، فربما يقع في الزنا، ويتعرَّض للرجْم، ولأنه من وجُوه حاجاته المهمَّة، فيجب على الابن القيامُ به كالنفقة والكسْوة، ويتفَّرع على القول بالوُجُوب مسائلُ:
[المسألة الأوُلَى] (?): إحداهما اختلفوا في موْضع وجُوب الإِعفاف علَى ثلاثة طُرُقٍ:
أشبههما: أن سبيله سبيلُ النفقة، فيجبُ إعفاف المعْسِر الزَّمِن، وفي المعْسِر الصحيحِ البَدَنِ قولان، كما في النفقة؛ لأنه لسدِّ الخلة ودفْعِ الحاجة كالنفقة.