وهذا ما يدل عليه كلام عامة الأصحاب، فإنهم لم يعتبروا إلاَّ الاستيلاء ومنع المالك عنه، ولم يذكر الإمام المسألة كما ذكرها صاحب الكتاب، ولكن قال: لا يحصل الغَصْب بنفس الإزعاج، فإنه بمثابة منع المالك عن ماشيته، وحمل هذا على ما ذكره الأكثرون هين، ولو لم يزعج المالك، ولكنه دخل واستولى مع المالك كان غاصبًا لنصف الدار لاجتماع يدهما واستلائهما عليه، نعم لو كان الداخل ضعيفًا والمالك قوي لا يعد مثله مستوليًا ولم يكن غاصبًا لشيء من الدار ولا عبره بقصد مالا يتمكن من تحقيقه أما إذا لم يكن مالك العقار فيه ودخل على قصد الاستيلاء فهذا غاصب وإن كان الداخل ضعيفًا وصاحب الدار قويًا لأن الاستيلاء حاصل في الحال واثر قوة المالك سهولة ازالته والانتزاع من يده فكان كما لو سلب قلنسوة ملك يكون غاصبًا وإن سهل على المالك انتزاعها وتأديبه.

وفيه وجه أن لا يكون غاصبًا؛ لأن مثله في العرف يعد هزءًا، ولا استيلاء وإن دخله لا على قصد الاستيلاء بل لينظر هل يصلح له أو ليتخذ مثله لم يكن غاصبًا.

قال في "التتمة" لكن لو أنهدمت في تلك الحالة هل يضمنها فيها وجهان.

أحدهما: نعم؛ كما لو أخذ منقولاً من بين يدي مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه، فتلف في تلك الحالة فإنه يضمنه.

وأصحهما: لا؛ بخلاف المنقول وفرق بينهما بأثر اليد على المنقول حقيقة فلا يحتاج في إثبات حكمها إلى قرينة وعلى العقار حكمية فلا بد من تحقيقها من قرينة الاستيلاء وهذا الفرق كأنه راجح إلى الأصح وإلاَّ فوجهان جاريان في المنقول على ما سبق.

وقوله خاصة بل المعنى إذا وجد الانتفاع والاستيلاء التام على المنقولات في الكتاب "إلاَّ في الدابة وفي الفراش" ليس القصد من الاستيلاء الدابة والفراش ولا شيء في المنقولات فيكفي على وجه وقوله "وفي العقار يثبت الغصب" معلم -بالحاء- لأن عند أبي حنيفة لا يثبت فيه الغصب لنا أن العقار تثبت عليه اليد فيدخله الغصب كالمنقول. وقوله "بالدخول إزعاج المالك" اعتبار الدخول والازعاج جميعاً، وفي اعتبار الدخول ما ذكرنا فيجوز أن يعلم قوله "بالدخول" بالواو وكذا قوله "لا يضمن".

واما الإزعاج فهو غير معتبر في غصب العقار أيضاً ألاَ تَرىَ انه لو كان المالك غائباً يوجد الغصب ولا إزعاج ولو استولى مع المالك غاصبًا للنصف ولا إزعاج بل الاعتبار باليد والاستيلاء حتى لو اقتطع قطعة من ارض ملاصقة لارضه وبنى عليها حائطا وأضافها إلى ملكه يضمنها إلاَّ أن الاستيلاء في الغالب يحصل بالدخول والازعاج فلذلك ذكرهما والله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015