والفرق أن الخطأ في الصُّورة الأولى غير مستيقن؛ لجواز أن لا يكون المَرَضُ بحَيْثُ يوجب اليَأْسَ ثم يزداد فيوجبه فيجعل الحكم للمال، وهاهنا الخطأ مستيقن إذ لا يَجوز أن يكون اليَأْسُ حَاصِلاً ثم يزول، والطاردون للقولين في الصُّورتين قالوا: مأخذهما فيهما أن النظر إلى الحال أو إلى المآل إن نظرنا إلى الحال لم يجزه في الصورة الأولى، وأجزأ في الثَّانيَةِ، وإن نظرنا إلى المآل عكسنا الحكم فيهما، وربما شبه القولان بالقولين فيما إذا رأوا سواداً فظنوه عَدُوّاً فَصَلُّوا صلاة الخَوْفِ ثم تبين خِلافَهُ هل تجزئهم الصَّلاة؟ والأظهر عَدَمُ الإِجْزَاء؛ وقد عرفت مما ذكرنا أنه يجوز أن يكون قوله في الكتاب: (قولان) معلَّمان بالواو للطريق الثاني في الصورة الثانية. التفريع: إن قلنا إن الحجة المأتيَّ بها تُجْزِئه استحق الأُجرة المسماة لا مَحَالة.
وإن قلنا: إنها لا تجزئه فهل تقع عن تطوعه أم لا تقع عنه أصلاً؟ فيه وجهان:
أحدهما: حكى الإمام عن شيخه عن القفَّال أن من أئمتنا من قال: إنه يقع عن تَطَوُّعِهِ ويكون العضب النَاجِز بمثابة الرِّق والصِّبَا في كونه عذراً لتقديم التطوع على حَجَّة الإِسْلاَم.
والثاني: أنها لا تقع عنه أصلاً كما لو استأجر ضرورة ليحج عنه وذكر صاحب الكتاب أن الأول هو الصحيح، لكن الإمام والجمهور استبعدوه، فإن قلنا: لا يقع عنه أصلاً فهل يستحق الأجير الأجرة؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم؛ لأنه عمل له في اعتقاده.
وأصحهما: لا، لأن المستأجر لم ينتفع به، فإن قلنا: بالأول: فماذا يستحق الأجير الأجرة المسماة أم أجرة المثل؟ فيه وجهان مأخذهما أنا هل نتبين فساد الاستئجار أم لا؟ وإن قلنا: إنه يقع عن تطوعه فالأجير يستحق الأجرة، وماذا يستحقه المسمى أو أجرة المثل؟ عن الشيخ أبي محمد أنه لا يمتنع تخريجه على الوجهين؛ لأن الحَاصِلَ غير ما ابتغاه.
الثانية: لا يجزئ الحَجّ عن المَعْضُوب بغير إذنه بخِلاَف قضاء الدَّيْنِ عن الغير؛ لأن الحَجَّ يفتقر إلى النية وهو أهل للإذن وللنية وإن لم يَكن أهلاً للمباشرة، وروي في "التتمة" عن أبي حامد المرورزي -رحمه الله- جواز الحج بغير إذنه، ويجوز الحَجُّ عَنِ المَيِّتِ، بل يجب عند استقراره عليه، سواء أوصى به أو لم يُوصِ خلافاً لأبي حنيفة ومالك حيث قالا: إن لم يوص لم يحج عنه ويسقط فرضه بالموت.
لنا: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحجَّ وَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحَجَّ أَفَأحَجُّ عَنْهَا فَقَالَ: لَوْ