ومما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد إلى رأي المستشرق، رأي نادى به أحد العلماء العرب وهو ابن جني في كتابه "الخصائص" يشير فيه إلى الخصومة بين العلماء الرواة من أهل البصرة وأهل الكوفة, وهي الخصومة التي أدت إلى تبادل قدر كبير من الاتهامات فيما بينهم، ومؤدى هذا الرأي هو أن هذه الاتهامات المتبادلة في حد ذاتها أمر يدعو إلى حرص هؤلاء العلماء والرواة على تحري الدقة فيما ينسبونه إلى الشعراء من شعر. والسبب في ذلك هو أنه "إذا سبق إلى أحدهم ظنه، أو توجهت نحوه شبهة سُبَّ بها وبُرئ إلى الله منه لمكانها"41.
وفي الواقع فإنه لا ينبغي لنا أن نبالغ في صحة هذه الاتهامات المتبادلة بين العلماء الرواة من أهل الكوفة وأهل البصرة. فإن سبب هذه الاتهامات يمكن أن نفهمه بسهولة إذا عرفنا أن علماء كل من المدينتين كانوا يشكلون منهجا أو مذهبا خاصا بهم في معالجتهم لرواية الشعر ومن ثم لقبول بعض القصائد واستبعاد البعض الآخر. فمنهج علماء البصرة كان فيه اتجاه نحو استخراج القواعد والقوانين التي يرون أنها تصلح قاعدة تقاس عليها صحة الشعر أو زيفه ومن ثم كانوا ميالين بالضرورة إلى التضييق في اختيارهم، التزامًا بما وضعوه من قواعد لا يمكن الخروج عنها، أما الكوفيون فقد كان منهجهم قائما على فهم روح اللغة واستبطان طبيعتها، ومن ثم فقد كانوا يقبلون صحة القصيدة طالما لم تخالف هذه الروح أو تغاير هذه الطبيعة دون التقيد بقواعد تعليمية مقننة، ومن هنا فقد كانوا يميلون نحو التوسيع. وطبيعي أن يؤدي هذا الاختلاف العلمي بين المدرستين الفكريتين إلى شيء من الاتهامات المتبادلة من حين إلى حين42.