كانوا يتغنون بالإسراف والإفراط في الشراب مثل طرفة وزهير, والشعراء الصعاليك الذين كانوا يئنون من شظف العيش ويفضلون صحبة وحوش البادية على بني قومهم مثل الشنفرى وتأبط شرًّا, وهكذا32.
كذلك فيما يخص الحديث عن رواية العصر الجاهلي فإن هناك أكثر من سبب يدعونا إلى تصديقها في جملتها بغض النظر عن أية تفصيلات جانبية فيها. فالقبائل العربية في العصر الجاهلي كانت حريصة كل الحرص على القصائد التي تسجل انتصاراتها وكانت تعتبرها أغلى ما تملك وترويها جيلًا بعد جيل. بل لقد كان لكل قبيلة راويتها الذي يعني بالاحتفاظ في ذاكرته بهذه القصائد وبخاصة في البادية التي لم يكن شيوع الكتابة فيها بمثل ما كان عليه في الحضر. ونحن نستطيع في الواقع أن نرى أثر ما تميزت به رواية الشعر الجاهلي من قوة واستمرار فيما نراه من أشعار القرن الأول الهجري مثل جرير والفرزدق وذي الرمة. لقد استخدم هؤلاء ذخيرة الشعراء الجاهليين مرارا متكررة متناولين الموضوعات ذاتها والأسلوب ذاته. حقيقة إنهم قد يقدمون على تحوير هنا أو تحسين هناك، ولكن يبقى التزامهم بهذه التقاليد الشعرية الجاهلية دون تغيير. وقد كان هذا في الواقع منتظرًا، إذ لم توجد فجوة زمنية بين شعراء الجاهلية وشعراء القرن الأول الهجري، وما دمنا قد وصلنا إلى شعراء القرن الأول ورواية الشعر الجاهلي على قوتها، فقد أصبحنا إذن على عتبة القرن الثاني، وهو عصر العلماء الرواة الذين وصل إلينا عن طريقهم الشعر الجاهلي33.
ومع ذلك فإن الدلائل تشير إلى أن الرواية لم تكن وحدها هي وسيلة