ثانياً: نعم؛ هنالك ومضات وإفاضات من كلام ابن كثير تدلل على حرصِه، وتخوُّفِه على قومه، وهي مِن إفاضاته فيما يخص حوادثَ عصره، تفيد توسع مدلول النصوص الواردة في الفتن، ولكن الربط المدّعى غير واقع أصلاً، فضلاً عن الزعم -فيما يبدو للقارئ- أنّه فعل ذلك من البداية إلى عصره، فهذا غير واقع من غير دافع، وهذا نقل عنه يصلح أنْ يكون أنموذجاً في الإسقاط الصحيح، بضوابطه المعتبرة.
قال -رحمه الله تعالى- في «البداية والنهاية» (13/119) عند كلامه عن (فتنة التتر) :
«وقد قَتَل جنكيزخان من الخلائق ما لا يَعْلَمُ عددهم إلا الذي خلقهم، ولكن كان البُداءة من «خوارزم شاه» ؛ فإنه لما أرسل جنكيزخان تُجَّاراً من جهته معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلاده، فانتهوا إلى إيران، فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه، وأخذ جميع ما كان معهم، فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعلمه؛ هل وقع هذا من الأمر عن رضًى منه، أو أنه لا يعلم به؟ فأنكره.
وقال فيما أرسل إليه: «من المعهود من الملوك أنّ التجار لا يُقتلون؛ لأنهم عمارةُ الأقاليم، وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والأشياء النفيسة، ثم إنّ هؤلاء التّجار كانوا على دينك، فقتلهم نائبك، فإنْ كان أمراً أمرتَ به؛ طلبنا بدمائهم، وإلا فأنت تُنْكِرُهُ وتقتصُّ من نائبك» ، فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان، لم يكن له جوابٌ سوى أنه أمر بضرب عُنُقِهِ؛ فأساء التدبير، وقد كان خَرَّفَ وكَبُرَتْ سِنُّه، وقد ورد الحديث: «اتْرُكُوا التُّرْكَ ما تَرَكُوكُم» (?) ، فلما بلغ ذلك جنكيزخان، تجهز لقتاله، وأَخْذِ بلاده؛ فكان بقَدَر الله -تعالى- ما كان من الأمور التي لم يُسْمَعْ بأغربَ منها، ولا أبشعَ» .