عَاشِرًا: زُهْدُهُ وَوَرَعُهُ:

إن الْعَالِمَ بِحَقٍّ مَنْ حَمَلهُ عِلْمُهُ على خشيةِ اللَّهِ (عز وجل) وَمُرَاقَبَتِهِ، مع مجانبةِ أعمالِ السفهاءِ من التكالبِ على الدنيا، والتهارشِ عليها، والتشاغلِ بها عن اللَّهِ والدارِ الآخرةِ.

وإن المرءَ ليشتدُّ عَجَبُهُ حينما يقفُ على حالِ الشيخِ (رحمه الله) في هذا البابِ، حتى يُخَيَّلَ إليكَ أن المترجمَ واحدٌ من أولئك السلفِ الصالحِ الْمُقْتَدَى بهم في العلمِ والعملِ والزهدِ والورعِ.

كان الشيخُ (رحمه الله) يقول: «الَّذِي يُفْرِحُنَا أنه لو كانت الدنيا مَيْتَةً لأباحَ اللَّهُ منها سَدَّ الخَلَّةِ» «ويُحَذِّرُ ابنَه مِنْ جَمْعِهَا والحرصِ عليها بحجةِ التصدقِ، وبناءِ المدارسِ والأربطةِ؛ لأنها كالماءِ الملحِ، وَاللَّهُ عز وجل لم يُوجِبْ على العبدِ جمعَ المالِ من أجلِ التصدقِ به، مع أن الواقعَ في الغالبِ أن العبدَ إذا جَمَعَ المالَ لا يُعْطِيهِ للناسِ» (?).

وقال الشيخُ (رحمه الله): «وأنا أَقْدَرُ الناسِ على أن أكونَ أَغْنَى الناسِ، وَتَرَكْتُ الدنيا لأني أعلمُ أنه إذا تلطخَ بها العبدُ لا يَنْجُو منها، إلا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ».

وكان الشيخُ (رحمه الله) لا يُبْقِي عندَه من المالِ إلا ما يَكْفِيهِ في الشهرِ، ويوزعُ ما زَادَ على ذلك على فقراءِ الطلبةِ والعجزةِ والأراملِ من قرابتِه، وكان يقول: «وَاللَّهِ لو عندي قوتُ يَوْمِي ما أخذتُ رَاتِبًا من الجامعةِ، ولكنني مُضْطَرٌّ، لا أعرفُ أشتغلُ بيدي، وأنا شايبٌ ضعيفٌ».

ولم يكن الشيخُ (رحمه الله) يبيعُ كُتُبَهُ التي أَلَّفَهَا، وكان يقول: «عِلْمٌ نَتْعَبُ عليه ويباعُ وأنا حَيٌّ؟ لا يمكنُ هذا، ولكن أنا أَدْفَعُ العلمَ، وواحدٌ يدفعُ الفلوسَ، وَيُوَزِّعُ للناسِ مجانًا، وأنا أعلمُ أنه سيصلُ إلى مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّهُ، ولكن سيصلُ أيضا إلى مَنْ لاَ يستطيعُ الحصولَ عليه بالفلوسِ» (?).

بل كان الشيخُ (رحمه الله) لا يميزُ بَيْنَ فئاتِ العملةِ الورقيةِ، وكان يقول: «لقد جئتُ من البلادِ ومعي كَنْزٌ قَلَّ أن يوجدَ عند أحدٍ، وهو القناعةُ، ولو أردتُ المناصبَ لَعَرَفْتُ الطريقَ إليها، فإني لا أُوثِرُ الدنيا على الآخرةِ، ولا أبذلُ العلمَ لنيلِ المآربِ الدنيويةِ».

والشيخُ (رحمه الله) مِنْ أَبْعَدِ الناسِ عنايةً بالمظهرِ، وربما خَرَجَ بِنَعْلَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ أَحَدُهُمَا أحمرُ والآخرُ أخضرُ.

يقول الشيخُ محمدُ العثيمين (رحمه الله): «كُنَّا طُلاَّبًا في المعهدِ العلميِّ في الرياضِ، وكنا جَالِسِينَ في الفصلِ، فإذا بشيخٍ يدخلُ علينا إذا رأيتَه قلتَ: هذا بَدَوِيٌّ من الأعرابِ، ليس عندَه بضاعةٌ مِنْ عِلْمٍ!! رَثُّ الثيابِ، ليس عليه آثارُ الهيبةِ، لا يهتمُّ بمظهرِه، فَسَقَطَ مِنْ أَعْيُنِنَا، فتذكرتُ الشيخَ عبدَ الرحمنِ السعديَّ، وقلتُ في نفسي: أتركُ الشيخَ عبدَ الرحمنِ السعديَّ وأجلسُ أمامَ هذا البدويِّ؟! فلما ابْتَدَأَ الشنقيطيُّ دَرْسَهُ انْهَالَتْ علينا الدُّرَرُ من الفوائدِ العلميةِ من بحرِ عِلْمِهِ الزَّاخِرِ، فَعَلِمْنَا أننا أمامَ جَهْبَذٍ من العلماءِ، وَفَحْلٍ من فحولها، فَاسْتَفَدْنَا من عِلْمِهِ وَسَمْتِهِ وَخُلُقِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ» (?) اهـ.

وَقَدِمَ إلى الرياضِ في بعضِ زياراتِه لمعهدِ القضاءِ، وعليه ثوبٌ مبتذلٌ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ أحدُ تلامذتِه في ذلك أجابه بقوله: «يَا فُلاَنُ، القضيةُ ليست بالثيابِ، وإنما ما تحتَ الثيابِ من العلمِ» وقد صَوَّرَ الشافعيُّ (رحمه الله) هذا المعنَى بقوله:

عَلَيَّ ثَيِابٌ لَوْ تُبَاعُ جَمِيعُهَا بِفِلْسٍ لَكَانَ الفِلْسُ مِنْهُنَّ أَكْثَرَا

وَفِيهِنَّ نَفْسٌ لَوْ تُقَاسُ بِبَعْضِهَا ... نُفُوسُ الْوَرَى كَانَتْ أَجَلَّ وَأَكْبَرَا

وَمَا ضَرَّ نَصْلَ السَّيْفِ إِخْلاَقُ غِمْدِهِ ... إِذَا كَانَ عَضْبًا حَيْثُ وَجَّهْتَهُ فَرَى

فَإِنْ تَكُنِ الأَيَّامُ أَزْرَتْ بِبَزَّتِي ... فَكَمْ مِنْ حُسَامٍ فِي غِلاَفٍ تَكَسَّرَا (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015