إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] فهذا يَدُلُّ على أن إقرارَ عينِه بالذريةِ الصالحين؛ لأنه هَجَرَ الْوَطَنَ، وَخَرَجَ عن القرباءِ والأحباءِ في اللَّهِ، وقد أَوْضَحَ اللَّهُ هذا في سورةِ مريمَ حيث قال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: آية 49].
وَيُفْهَمُ من هذه الآياتِ أَنَّ مَنْ هَجَرَ الأوطانَ والأقاربَ لِلَّهِ أَقَرَّ اللَّهُ عينَه مِنْ ظَهْرِهِ بما يُسَلِّيهِ عَنْهُمْ (?)؛ وَلِذَا قَالَ هُنَا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] نونُ التنوينِ عِوَضٌ عن كلمةٍ، أي: كُلُّ واحدٍ منهم هَدَيْنَا، و {كُلاًّ} مفعولٌ به لـ {هَدَيْنَا}. وهذا تمامُ إقرارِ العينِ؛ لأَنَّ الولدَ إذا كان غيرَ صالحٍ لم يَكُنْ قُرَّةَ عَيْنٍ، فَهِبَتُهُ والنعمةُ به إنما تَتِمُّ إذا كان مَهْدِيًّا، لاَ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَهْدِيٍّ؛ وَلِذَا قال: {كُلاًّ هَدَيْنَا}.
ثم قال: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} لَمَّا كَانَتْ قصةُ نوحٍ شبيهةً بقصةِ إبراهيمَ ذَكَرَهُ مَعَهُ؛ لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وهو أولُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ لقومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وَجَادَلُوهُ جِدًّا في الأوثانِ {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: الآيتان 23، 24] وَكَانَ يُجَادِلُهُمْ فِي عبادةِ الأصنامِ حتى قالوا له: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: آية 32] وكان إبراهيمُ نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ أجرامَ السماءِ وأجرامَ الأرضِ كذلك، وَخَاصَمَهُمْ مثلَ مخاصمةِ نُوحٍ، بَيَّنَ أنه هَدَى نُوحًا مِنْ قَبْلِ إبراهيمَ، كما هَدَى