هذا هو القِسْمُ الثاني الذي فيه الإنذارُ {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: جحدوا آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وزعموا أنه أساطيرُ الأَوَّلِينَ، أو أنه سحرٌ أو شعرٌ أو من كهانةِ الكهانِ. الذين كفروا هذا الكفرَ، وهم أظلمُ الناسِ كما تَقَدَّمَ في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: آية 21].
{أُولَئِكَ} هؤلاء الذين هذه صفتُهم {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} والمسيسُ معناه: وقوعُ الشيءِ على الشيءِ مباشرةً من غيرِ أن يَحُولَ بَيْنَهُمَا حائلٌ. وَعبَّرَ بالمسيسِ ليبينَ أن حَرَّ ذلك العذابِ وَأَلَمَهُ يباشرهم مباشرةً عظيمةً شديدةً من غيرِ حائلٍ، كما يَأْتِي في قولِه: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: آية 7] لأنها تُبَاشِرُ الأجسامَ، وتغوصُ فيها حتى تحرقَ سويداءَ القلبِ، وداخلَ جسمِ الإنسانِ؛ ولذا قال: {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: آية 49] أي: عذابُ اللَّهِ، وعذابُ اللَّهِ (جل وعلا) لا يماثلُه عذابٌ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: الآيتان 25 - 26].
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الباء) سببيةٌ، و (ما) مصدريةٌ. والمعنى: يَمَسُّهُمُ العذابُ بسببِ كونِهم كانوا فَاسِقِينَ في دارِ الدنيا.
و (الفسقُ) في لغةِ العربِ: الخروجُ. وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ (?).والعربُ كُلُّ ما خرجَ إنسان عن شيء سَمَّتْهُ (فاسقًا). ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (?):
يَهْوَيْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا ... فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا