وأعظم أنواع الرُّشَا خطرًا ارتشاء القاضي الذي هو منصوبٌ ليحكم بين الناس بما أنزل الله، فإذا ترك ما أنزل الله وتعوّض عنه عرض هذا الأدنى -والعياذ بالله- فهو أخس خلق الله، والسارق قد يكون أخف شرًّا منه؛ لأن السارق هو سارق، ولا يدعي سرقته، ولا يجعلها على الله، ولا على رسوله، ولا يقول: الله أمرني أن أسرق. بخلاف القاضي المرتشي فإنه يزعم أن الله أمره بهذا القضاء، وأن هذا حكم الله، وهو سارق شر سرقة.
وكذلك كل من كان في مصلحة -ولو غير قضاء- جعله فيها ولي أمر المسلمين، وأعطاه ماهية شهرية يتقاضاها، فإنه لا يجوز له أن يعطل حقوق الناس ويقول لهم: بُكْرة، وبعد بُكْرة، إلى ألف بُكْرة!! ليرتشي منهم، فإن هذا أمر خسيس قبيح، وفاعله أخو اليهود، لا خير فيه ألبتة، فلا دين له ولا مروءة.
فيجب على المسلمين أن يُنَزِّهُوا ضَمَائِرَهم، وأن يكونوا أمة -ناسًا- كالرجال، ولا ينحطوا أمام هذه المطامع الخسيسة المدنَّسة المُخْزِيَة، لأنه رُبَّ أكلة قبيحة أعقبت صاحبها شرًّا عظيمًا، ألا ترون إلى هؤلاء القوم من اليهود أكلوا سَمَكًا فانظروا ما أعقبتهم هذه الأكلة من الوبال، صاروا قِرَدَةً -والعياذ بالله- فهذه الآية وإن كانت في اليهود فكل من أخذ بشيء منها فهو أخو اليهود بقدر ما أخذ منها، وسيناله من الوعيد بقدر ما أخذ منه. وهذا معنى قوله: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} أي: هذا المتاع والحطام الزائل الأدنى القريب العاجل. أو (الأدنى) لدناءته ورذالته، ومع هذا هم يأكلون الرُّشَا ويُغَيِّرُونَ أحْكَامَ اللهِ، ويدَّعون على الله أنه يغفر لهم هذه الذنوب!! فهذا من الجراءة والجَهْلِ وطَمْسِ البَصَائِرِ لا يعلمه إلا الله.