فقال: إنما ورد النهي عن الشرب في إناء الفضة والذهب، فما كان غير الفضة والذهب فلا بأس بما كان فيه منهما.

ثم قال: يا عثمان، ما تقول في رجل مر على نهر، وقد أصابه عطش، وليس معه إناء، فاغترف الماء من النهر، فشربه بكفه، وفي أُصبعه خاتم؟ فقلت: لا بأس.

قال: فهذا كذلك.

قال عُثمان: فما رأيت أحضر جواباً منه.

*وعن زفر بن الهديل، قال: اجتمع أبو حنيفة، وابن أبي ليلى، وجماعة من العلماء، في وليمة لقوم، فأتوهم بطيب في مدهن فضة، فأبوا أن يستعملوه؛ لحال المُدهن، فأخذه أبو حنيفة، وسلته بأصبعه، وجعله في كفه، ثم تطيب به، وقال لهم: ألم تعلموا أن أنس بن مالك أتى بخبيص في جام فضة، فقلبه على رغيف، ثم أكله.

فتعجبوا من فطنته وعقله.

وعن أبي الوليد الطيالسي قال: قدم الضحاك الشاري الكوفة، فقال لأبي حنيفة: تب.

فقال: مم أتوب؟ فقال: من قولك بتجويز الحكمين.

فقال: أبو حنيفة: تقتلني أو تناظرني.

قال: بل أناظرك.

قال: فإن اختلفنا في شيء مما تناظرنا فيه، فمن بيني وبينك؟ قال: اجعل أنت من شئت.

فقال أبو حنيفة لرجل من أصحاب الضحاك: اقعد بيننا فيما نختلف فيه إن اختلفنا.

ثم قال الضحاك: أترضى بهذا بيني وبينك؟.

قال: نعم.

فقال أبو حنيفة: فأنت قد جوزت التحكيم.

فانقطع الضحاك.

*وعن ابي يوسف، قال: بعث ابن هبيرة إلى أبي حنيفة، وعنده ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، فسألهم عن كتاب صُلح الخوارج، وكانت بقيت بقية من الخوارج، من أصحاب الضحاك الخارجي، فقالت الخوارج: نريد أن نكتب لنا صُلحاً، على أن لا نؤخذ بشيءٍ أصبناه في الفتنة، ولا قبلها، لا الأموال، ولا الدماء.

فقال ابن شبرمة: لا يجوز لهم الصلح على ذلك، على هذا الوجه، لأنهم يؤخذون بهذه الأموال والدماء.

وقال ابن أبي ليلى: الصلح لهم جائز في كل شيءٍ.

قال أبو حنيفة: فقال لي ابن هبيرة: ما تقول أنت؟ فقلت: أخطأ جميعاً.

فقال ابن هبيرة: أفحشت، فقل أنت.

فقلت: القول في هذا، إن كان مال ودم أصابوه من قبل إظهار الفتنة، فإن ذلك يؤخذ منهم ولا يجوز لهم الصلح عليه، وأما كل شيء أصابوه من مال ودم في الفتنة، فالصلح عليه جائز، فلا يؤخذون به.

فقال ابن هبيرة: أصبت، وقلت الصواب، هذا هو القول.

وقال: يا غلام، اكتب ما قال أبو حنيفة.

*وعن علي بن عاصم، قال: سألت أبا حنيفة عن درهم لرجل ودرهمين لآخر، اختلطت، ثم ضاع درهمان من الثلاثة، لا يعلم أيها هما.

فقال: الدرهم الباقي بينها أثلاثاً.

قال علي: فلقيت ابن شبرمة، فسألته عنها. فقال: سألت عنها أحداً غيري؟ قلت: نعم، سألت أبا حنيفة عن ذلك، فقال: يُقسم الدرهم الباقي بينهما أثلاثاً.

قال: أخطأ أبو حنيفة، درهم من الدرهمين الضائعين يحيط العلم أنه من الدرهمين، والدرهم الباقي بعد الماضيين يحتمل أن يكون الدرهم الباقي من الدرهمين، ويحتمل أن يكون الدرهم المنفرد المختلط بالدرهمين، فالدرهم الذي بقى يكون بينهما نصفين.

قال ابن عاصم: فاستحسنت ذلك، ثم لقيت أبا حنيفة، فوالله لو وزن عقله بنصف عقول أهل المصر، يعني الكوفة، لرجح بهم، فقلت له: يا أبا حنيفة: خولفت في تلك المسألة. وقلت له: لقيت ابن شبرمة، فقال: كذا.

فقال أبو حنيفة: إن الثلاثة حين اختلطت ولم تتميز، رجعت الشركة في الكل، فصار لصاحب الدرهم ثلت كل درهم، ولصاحب الدرهمين ثلثا كل درهم، فأي درهم ذهب فعلى هذا.

وعن أبي يوسف، قال: جاء رجل إلى مسجد الكوفة يوم الجمعة، فدار على الخلق يسألهم عن القرآن، وأبو حنيفة غائب بمكة، فاختلف بمكة، فاختلف الناس في ذلك، والله ما أحسبه إلا شيطاناً تصور في صورة الإنس، حتى انتهى إلى حلقتنا؛ فسألنا عنها، وسأل بعضنا بعضاً، وأمسكنا عن الجواب، وقلنا ليس شيخنا حاضراً، ونكره أن نتقدم بكلام حتى يكون هو المبتدي بالكلام.

فلما قدم أبو حنيفة تلقيناه بالقادسية، فسألنا عن الأهل والبلد، فأجبناه، ثم قلنا له بعد ذلك: رضي الله عنك، وقعت مسألة فما قولك فيها؟ فكأنه كان في قلوبنا، وأنكرنا، وظن أنه وقعت مسألة معنتة، وأنا قد تكلمنا فيها بشيءٍ فقال: ما هي؟ قلت: كذا وكذا.

فأمسك ساكتاً ساعة، ثم قال: فما كان جوابكم فيها؟ قُلنا: لم نتكلم فيها بشيءٍ، وخشينا أن نتكلم فيها بشيءٍ فتنكره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015