ومن جملة ما يشنع به الحساد على أبي حنيفة، رضي الله عنه، أنه من جملة الموالي وليس هو من العرب، وأن من كان مجتهداً من العرب أولى بالتقديم من غيره.
والجواب، أن شرف العلم مُقدم على شرف النسب، وشرف الدين مقدم على شرف المنتسبين، وأكرم الناس عند الله أتقاهم، وما يضر العالم كونه من الموالي، وما ينفع الغوي الجاهل كونه حجازياً، أو تميمياً، وهو لا يعرف اليمين من الشمال، ولا يفرق بين الهدى والضلال.
ومما روى أن رجلاً من بني قفل، من خيار بني تيم الله، قال لأبي حنيفة: أنت مولاي.
فقال: والله!! والله أشرف لك منك لي.
فجعل أبو حنيفة شرف القرشي التيمي يكون من مواليه مثل أبي حنيفة، أفضل من شرف أبي حنيفة بكونه من موالي القرشي التيمي، وهذا مما لا شبهة فيه، فإنه ثابت بالكتاب والسنة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: (إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ) .
وأما السُّنة، فقوله صلى الله عليه وسلم: " لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى "، وقال صلى الله عليه وسلم: " سلمان منا أهل البيت ". ونفى الله تعالى ولد نوح عليه الصلاة والسلام منه، فقال: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ، وعلى هذا بلال الحبشي، وأبو لهب الهاشمي، وأبو جهل القرشي.
وقد أشد الخطيب الخوارزمي في هذا المعنى، وأجاد، فقال:
إلى التُقَى فانْتسِبْ إن كنتَ مُنْتَسِباً ... فليس يُجديكَ يوماً خالِصُ النَّسَبِ
بِلالٌ الحبشيُّ العَبْدُ فَاق تُقىً ... أحرَارَ صِيدِ قُرَيشٍ صَفْوَةَ العَرَب
غَدَا أبُو لَهبٍ يُرْمَى إلى لَهَبٍ ... فيه غَدَتْ حَطَباً حَمَّالَةُ الحَطَبِ
وذكر القاضي عياض في " الشفاء " عن الشعبي، قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة أمه، ثم قربت له بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخذ بركابه، فقال زيد: خَلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فقبل زيد يد ابن عباس، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، صلى الله عليه وسلم.
ففعل ابن عباس فعله معه بالعلم، وإنه إنما بالغ في التواضع إلى هذه الغاية، لكونه عالماً، وابن عباس ابن عباس. انتهى.
وفي أوائل " شرح الهداية " لمحمد بن محمد المعروف بابن الشحنة، حكاية مشهورة، نقلها هو وغيره عن عطاء، وأظنه عطاء بن السائب الكوفي. قال: دخلت على هشام بن عبد الملك بالرصافة، فقال: يا عطاء، هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى، يا أمير المؤمنين.
فقال: من فقيه أهل المدينة؟ قلت: قلت نافع مولى ابن عمر.
قال: فمن فقيه أهل مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح.
قال: مولى أم عربي.
قلت: مولى.
قال: فمن فقيه أهل اليمن؟ قلت: طاووس بن كيسان.
قال: مولى أم عربي؟.
قلت: مولى.
قال: فمن فقيه أهل الشام؟ قلت: مكحول.
قال: مولى أم عربي.
قلت: مولى.
قال: فمن فقيه أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران.
قال: مولى أم عربي؟ قلت: مولى.
قال: فمن فقيه أهل خراسان؟ قلت: الضحاك بن مزاحم.
قال: مولى أم عربي؟ قلت: مولى.
قال: فمن فقيه أهل البصرة؟ قلت: الحسن، وابن سيرين.
قال: موليان أم عربيان؟ قلت: موليان.
قال: فمن فقيه أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي.
قال: مولى أم عربي؟ قلت: لا، بل عربي.
قال: كادت تخرج نفسي.
أقول: إن اصطلاح أهالي الديار الرومية في هذه الأيام إطلاق لفظ الموالي على العلماء الكبار منهم، سواء كانوا من قسم الموالي المذكورين هنا، أم من الأحرار أباً وجدا، من غير أن يمسهم أو يمس أحداً منهم الرق، والسبب في ذلك - والله تعالى أعلم - أنهم لما رأوا غالب العلماء من طائفة الموالي، أطلقوا هذا على علمائهم تشبهاً بهم، وتقليداً لهم، ومنعوا من إطلاقه على غير أهل العلم، ثم طال الأمد، وقصرت الهمم، وتساهلت الناس في إطلاق الألقاب، على غير ذوي الألباب، وشارك الفاضل المفضول، وتساوى العالم بالجهول،
وصار من ليس لهُ منْصِبٌ ... يُقال عنه جاهلٌ يَمْذُقُ
ومَن غدا بالمال ذا ثروةٍ ... يُقال عنه عالمٌ مُفْلِقُ
مَوْلَى الموالي كلِّهم وهو بالْ ... حقِّ غَبِيٌ جاهلٌ أحمقُ