قال حاتم: فأنت بمن اقتديت، بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بأصحابه، أو بالتابعين من بعدهم، والصالحين على أثرهم، أو بفرعون ونمرود، أول من بنى بالجص والآجر؟ يا علماء السوء مثلكم إذا رآه الجاهل المتكالب على الدنيا، الراغب فيها يقول: إذا كان هذا العالم على هذه الحالة لا أكون أنا شراً منه.

قال: ثم خرج من عنده، وازداد محمد بن مقاتل مرضاً على مرضه من كلامه.

وبلغ أهل الري ما جري بين حاتم وبين أبي مقاتل، فقالوا لحاتم: يا أبا عبد الرحمن، إن محمد بن عبيد الطنافسي بقزوين، أكبر سناً من هذا، وهو غريق في الدنيا.

قال: فصار حاتم إليه متعمداً، ودخل عليه، وعنده الخلق مجتمعون يحدثهم، فقال له حاتم: رحمك الله، أنا رجل عجمي، جئتك لتعلمني مبتدأ ديني، ومفتاح صلاتي، كيف أتوضأ للصلاة؟ فقال: نعم وكرامة، يا غلام، إناءً فيه ماء.

فجاءه بالإناء، وقعد محمد بن عبيد يتوضأ ثلاثاً، ثم قال له: هكذا فاصنع.

قال حاتم: مكانك، رحمك الله، حتى أتوضأ بين يديك، ليكون آكد لما أريد.

فقام الطنافسي، وقعد حاتم مكانه فتوضأ، وغسل وجهه ثلاثاً، حتى إذا بلغ الذراع غسله أربعاً.

فقال له الطنافسي: يا هذا، أسرفت.

فقال له حاتم: فيما أسرفت؟ قال: غسلت ذراعك أربعاً.

فقال له حاتم: سبحان الله تعالى، أنا أسرفت في كف من الماء، وأنت في جميع هذا الذي أراه كله لم تسرف!! فعلم الطنافسي أنه قصد منه ذلك، ولم يرد أن يتعلم منه شيئاً، فدخل إلى البيت، ولم يخرج إلى الناس أربعين يوماً.

وكتب تجار الري إلى بغداد بما جرى بين حاتم وبين محمد بن مقاتل، ومحمد بن عبيد الطنافسي، ثم رحل حاتم إلى العراق، ودخل بغداد، واجتمع بعلمائها كما تقدم في أوائل الترجمة.

ثم خرج إلى الحِجاز، فلما صار إلى المدينة الشريفة، أحب أن ينظر علماءها، فقال لهم: يا قوم، أي مدينة هذه؟ قالوا: مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصلي فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطي.

قال: قصور أهله وأزواجه وأصحابه بعده؟ قالوا: ما لهم إلا بيوت لاطية.

فقال حاتم: يا قوم، هذه مدينة فرعون.

قال: فلببوه وذهبوا به إلى الوالي، فقالوا: هذا العجمي يقول: هذه مدينة فرعون.

فقال له الوالي: لم قلت ذلك؟ فقال له حاتم: لا تعجل علي أيها الأمير، أنا رجل غريب، دخلت هذه المدينة، فسألت: أي مدينة هذه؟ فقالوا: مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقلت: وأين قصر الرسول صلى الله عليه وسلم لأصلي فيه ركعتين؟ قالوا: ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطي. قلت: فقصور أهله وأزواجه وأصحابه بعده؟ قالوا: ما لهم إلا بيوت لاطية. وسمعت الله تعالى يقول: (لَقَدْ كَاَنَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أسْوةٌ حَسَنةٌ لِمَنْ كَاَنَ يَرْجُوا اللهَ واليَوْمَ الآخِرَ) ، فأنتم بمن تأسيتم؛ برسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بأصحابه، أو بفرعون أول من بنى بالجص والآجر؟ فخلوا عنه، وعرفوا أنه حاتم الأصم، وعلموا قصده.

وكان كلما دخل المدينة يكون له مجلس عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، يحدث ويدعو، فاجتمع إليه مرة علماء المدينة، وقالوا: تعالوا نخجله في مجلسه، كما فعل بنا عند الوالي.

فحضروا عنده وقد اجتمع إليه خلق كثير، فقال له واحد: يا أبا عبد الرحمن مسألة.

قال: سل.

قال: ما تقول في رجل يقول: اللهم ارزقني.

قال حاتم: متى طلب هذا العبد الرزق من ربه عز وجل، في الوقت، أو قبل الوقت، أو بعد الوقت؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ليس نفهم عنك هذا.

فقال حاتم: أنا أضرب لكم مثلاً حتى تفهموه، مثل العبد طلب الرزق من ربه تعالى قبل الوقت كمثل رجل كان له رجل دين، فطالبه به، وقعد يلازمه، فاجتمع جيرانه وقالوا له: هذا رجل معدم، لا شيء له، فأجله في هذا الحق حتى يحتال ويعطيك. فقال لهم: كم تريدون أؤجله؟ قالوا: شهراً. فتركه وانصرف، فلما كان بعد عشرة أيام جاء واقتضاه، فقام جيرانه فقالوا: سبحان الله، أجلته بين أيدينا شهراً، ثم جئت تقتضيه بعد عشرة أيام. فتركه وانصرف، فلما كان محل الشهر جاء فاقتضاه، فقال الجيران: إنما حل لك اليوم، دعه إلى بعد المحل ثلاثاً. فهذا مثل العبد الذي يطلب الرزق من ربه عز وجل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015