أحد أتباع الإمام الأعظم، وأحد أعلام الأئمة، وصلحاء هذه الأمة، كان مشهوراً بالزهد والتقلل، معروفاً بالورع والتقشف، وله كلام مدون في الزهد والحكم، وأسند الحديق عن شقيق بن إبراهيم البلخي، وغيره.
وصحب عصام بن يوسف البلخي الإمام، وكان بينهما مباحث ومناظرات، وأهدى إليه عصام مرة شيئاً فقبله، فقيل له: لم قبلته؟ فقال: وجدت في أخذه ذلي وعزه، وفي ردي عزي وذله، فاخترت عزه على عزي، وذلي على ذله.
وقدم حاتم مدينة بغداد في أيام أبي عبد الله أحمد ابن حنبل، واجتمع معه.
حكى عنه أبو عبد الله الخواص، وكان من علية أصحابه، قال: لما دخل حاتم بغداد، اجتمع إليه أهلها، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن، أنت رجل عجمي، ليس يكلمك أحدُ إلا قطعته، لأي معنى؟؟!! فقال حاتم: معي ثلاث خِصال بها أظهر على خصمي.
فقالوا: أي شيءٍ هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن له إذا ما أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتجاهل عليه.
فبلغ ذلك أحمد بن حنبل، فقال: سبحان الله، ما أعقله من رجل.
وحدث أبو جعفر الهروي، قال: كنت مع حاتم أراد الحج، فلما وصل إلى بغداد، قال لي: يا أبا جعفر، أحب أن ألقي أحمد ابن حنبل.
فسألنا عن منزله، ومضينا إليه، فطرقت عليه الباب، فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله، أخوك حاتم.
قال: فسلم عليه، ورحب به، وقال بعد بشاشةٍ به: أخبرني يا حاتم، فيم التخلص من الناس؟ قال: يا أحمد، في ثلاث خصال.
قال: وما هي؟ قال: أن تعطيهم مالك ولا تأخذ من مالهم شيئا، وتقضي حقوقهم ولا تستقضي أحداً منهم حقا لك، وتحتمل مكروهم ولا تكره أحداً منهم على شيء.
قال: فأطرق أحمد ينكت بأصبعه على الأرض، ثم رفع رأسه. وقال: يا حاتم: إنها لشديدة.
فقال له حاتم: وليتك تسلم، وليتك تسلم، وليتك تسلم.
وروى الخطيب بسنده إلى الحسن بن علي العابد، أنه قال: سمعت حاتماً الأصم، وقد سأله سائل: على أي شيءٍ بنيت أمرك؟ فقال: على أربع خصال، على أن لا أخرج من الدنيا حتى أستكمل رزقي، وعلى أن رزقي لا يأكله غيري، وعلى أن أجلي لا أدري متى هو، وعلى أني لا أغيب عن الله تعالى طرفة عين.
قال: وسمعت حاتماً يقول: لة أن صاحب خبر يجلس إليك ليكتب كلامك لا حترزت منه، وكلامك يعرض على الله فلا تحترز.
وقال له رجل: بلغني أنك تجوز المفاوز من غير زاد.
فقال حاتم: بل أجوزها بالزاد، وإنما زادي فيها أربعة أشياء.
قال: وما هي؟ قال: أرى الدنيا كلها ملكاً لله، وأرى الخلق كلهم عباد الله وعياله، وأرى الأسباب والأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء الله نافذاً في كل أرض.
فقال له الرجل: نعم الزاد زادك يا حاتم، أنت تجوز به مفاوز الآخرة، فكيف مفاوز الدنيا!! وقال، رضي الله عنه: خرجت في سفر ومعي زاد، فنفد زادي في وسط البرية، فكان قلبي في البرية والحضر واحداً.
وذكر عن حاتم أنه قال: لقينا الترك مرة، وكان بيننا جولة، فرماني تركي بوهق فأقلبني عن فرسي، ونزل عن دابته، وقعد على صدري، وأخذ بلحيتي هذه الوافرة، وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني بها، فوحق سيدي ما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، إنما كان قلبي عند سيدي، أنظر ماذا ينزل به القضاء منه، فقلت: سيدي قضيت على أن يذبحني هذا فعلى الرأس والعين، إنما أنا لك وملكك، فبينا أنا أخاطب سيدي وهو قاعد على صدري، آخذ بلحيتي ليذبحني، إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه، فسقط عني، فقمت أنا إليه، فأخذت السكين من يده فذبحته، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لا ترون من الآباء والأمهات.
وروى أن رجلاً جاء إليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي شيءٍ رأس الزهد، ووسط الزهد، وآخر الزهد؟ فقال: رأس الزهد الثقة بالله، ووسطه الصبر، وآخره الإخلاص.
وكان أبو بكر الوراق، يقول: حاتم الأصم لقمان هذه الأمة.
والسبب في تسميته بالأصم أن امرأة جاءت إليه تسأله عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها في تلك الحالة صوت، فخجلت، فقال حاتم: ارفعي صوتك. وأراها من نفسه أنه أصم، فسرت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع الصوت. فغلب عليه أسم الأصم.
ومحاسن حاتم وفضائله تجل عن الإحصاء، وتتجاوز حد الضبط، وفيما ذكرناه أدل دليل على علو شأنه، وحسن اعتقاده، وخلوص إيمانه.