الخطبة الثامنة
في بيان الحكمة في تفاوت الناس في الرزق الحمد لله الواحد القهار الحكيم في خلقه وشرعه ففي خلقه وفي شرعه غاية الحكم والأسرار قسم الرزق بين عباده ما بين غنى واقتار لتقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغني الكريم الجواد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسل وخلاصة العباد وأبلغ الناس في الزهد والورع والشكر والصبر على أحكام الملك الجبار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان آناء الليل والنهار وسلم تسليما.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله له الحكمة البالغة في الخلق والتقدير والتضييق على عباده والتيسير وله الحكمة البالغة في الحكم والتشريع فأحكام شريعته كلها عدل ورحمة وحكمة مصلحة للعباد في دنياهم وأخراهم: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فله الحمد في منعه وعطائه وعلى العباد إذا وسع عليهم أرزاقهم أن يشكروه ويقوموا بما يجب عليهم في هذه الأرزاق وعلى العباد إذا قدرت عليهم أرزاقهم أن يصبروا على تقدير الواحد الخلاق فهم أعلم بمصالحهم وهو أرحم بهم من أمهاتهم لقد قسم العليم الحكيم الرزق على عباده فمنهم من بسط له في رزقه ومنهم من قدر عليه رزقه وذلك لحكم عظيمة باهرة قسم الله الرزق على عباده ليعرفوا بذلك أنه المدبر لجميع الأمور وأن بيده مقاليد السماوات والأرض فهذا يوسع عليه والآخر يضيق عليه ولا راد لقضائه وقدره: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12] بسط العليم الحكيم الرزق لبعض العباد وضيقه على بعضهم ليعتبروا بهذا التفاوت في الدنيا تفاوت ما بينهم في درجات الآخرة فكما أن الناس في هذه الدنيا متفاوتون فمنهم من يسكن القصور المشيدة العالية ويركب المراكب الفخمة الغالية ويتقلب في ماله وأهله وبنيه في سرور وحبور ومنهم من لا مأوى له ولا أهل ولا مال ولا بنون ومنهم ما بين ذلك على درجات مختلفة فإن التفاوت في درجات الآخرة أعظم وأكبر وأجل وأبقى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21] فإذا كانت الآخرة أكبر الدرجات وأكبر تفضيلا فإنه ينبغي أن نتسابق إلى درجاتها العالية وحياتها الباقية ذلك خير وأحسن تأويلا قسم الله الرزق بين عباده.