اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهر في النار واتخذ أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع.
فأبو القاسم بارد كهذين المدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثًا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشد وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة لسيلانه وليونته، ثم يرتفع بها إلى معدم غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد.
وقد اختار الألفاظ في النظم التي تتناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العفيف، الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته بثقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشعور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به.
وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتم العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإيقاع، ولعل هذه الشبهة هي التي وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية بالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس. وإن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.