بمشاكلة مودة معروفة وجوهها، موثوق بخلوصها فتوكدها بحسب السبب الداعى إليها، ودوامها بدوامه واتصالها باتصاله؛ ومودة القربى وإن أوجبتها اللّحمة، فهى مشوبة بحسد ونفاسة؛ وبحسب ذلك يقع التقصير فيما يوجبه الحال، والإضاعة لما يلزم من الشكر، والله يعلم أنى أودك مودّة خالصة لم تدع إليها رغبة فيزيلها استغناء عنها، ولا اضطرت إليها رهبة؛ فيقطعها أمن منها، وإن كنت مرجوا للموهبات بحمد الله؛ ومقصدا من مقاصد الرغبات، وكهفا وحرزا من الموبقات. فهذا الكلام كله معقود إلى قوله: «مشاكلة مودة» فلما اتصل بما بعده صار محلولا.
وقال بعضهم: انظر سدّدك الله ألّا تدعوك مقدرتك على الكلام إلى إطاله المعقود؛ فإن ذلك فساد ما أكننته فى صدرك، وأردت تضمينه كتابك. واعلم أن إطالة المعقود يورث نسيان ما عقدت عليه كلامك، وأرهفت به فكرتك.
وكان شبيب بن شبة يقول: لم أر متكلما قطّ أذكر لما عقد عليه كلامه، ولا أحفظ لما سلف من نطقه من خالد بن صفوان، يشبع المعقود بالمعانى التى يصعب الخروج منها إلى غيرها، ثم يأتى بالمحلول واضحا، بينا مشروحا منورا. وكان السامع لا يعرف مغزاه ومقصده، فى أول كلامه حتى يصير إلى آخره.
وقال بعضهم: ليس يحمد من القائل أن يعمى معرفة مغزاه على السامع لكلامه فى أول ابتدائه، حتى ينتهى إلى آخره؛ بل الأحسن أن يكون فى صدر كلامه دليل على حاجته ومبيّن لمغزاه ومقصده؛ كما أن خير أبيات الشعر ما إذا سمعت صدره عرفت قافيته. وكان شبيب بن شبة يقول: الناس موكّلون بتعظيم جودة الابتداء وبمدح صاحبه؛ وأنا موكّل بتعظيم جودة المقطع وبمدح صاحبه؛ وخير الكلام ما وقف عند مقاطعه، وبيّن موقع فصوله.
قلنا: ومما لم يبين موضع الفصل فيه فأشكل الكلام قول المخبّل للزبرقان ابن بدر: