أقول: انظر كيف بنى الإمام الشافعي هذا الفرع الفقهي المهم على أفعال الصحابة، وهذا الكلام نقله الماوردي من مختصر المزني إذ أن الماوردي يشرحه في الحاوي، وهو من الكتب الجديدة في مذهب الشافعي خلافاً لمن افتات على الإمام وزعم أنه لا يحتج بآثار الصحابة في الجديد وقد نقض ابن القيم هذه الدعوى نقضاً مبرماً في إعلام الموقعين وقد كتبت في ذلك مقالاً أسميته [تثبيت القول بحجية سنة الخلفاء الراشدين] فأغنى ما كتبته هناك عن التطويل ها هنا.
غير أننا ها هنا لا نتكلم عن الآثار التي ثبتت مخالفتها للنصوص بوجهٍ لا يتطرق إليه شك، وإنما نتحدث عن آثارهم فيما لم يخالف نصاً، وما كان من فهمهم للنصوص فهو بمنزلة الحديث المرفوع عند أهل التحقيق كما نقله الحاكم صاحبي الصحيح.
قال شيخ الإسلام: [مجموع الفتاوى 15/ 152]:" وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ. فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
أقول: قول الإمام أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ما] هنا الموصولة بمعنى الذي وهي من ألفاظ العموم فيشمل ما كانوا عليه في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب.
الأساس الثالث: الأخذ بالحق دون النظر إلى قائله
قال الدارمي [220] " أخبرنا محمد بن عيينة، أنبأنا علي هو ابن مسهر عن أبي إسحاق عن الشعبي عن زياد بن حدير قال:- قال لي عمر:- هل تعرف ما يهدم الإسلام؟
قال: قلت: لا قال:- يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين."
أقول: إسناده قوي
وقال ابن القيم في [إعلام الموقعين 2/ 133]:" وقد تقدم أن معاذاً كان لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً "
أقول: هنا ثلاثة أصول مهمة في تحقيق هذا الأساس
الأصل الأول: أن العالم مهما بلغ من العلم فإنه قد يزل كما في أثر عمر.
الأصل الثاني: أن المفضول - وإن كان من أفجر الناس- قد يقول كلمة الحق كما في أثر معاذ وقد تقدم كلام الفضيل في وجوب أخذ الحق الذي معه، ولا يعني ذلك بالضرورة الذهاب إليه والتتلمذ عليه، ولكن إن بلغك الحق عنه أو سمعته منه فلا ترده شنآناً له.
الأصل الثالث: أن الاجتهاد يتجزأ وقد يكون المفضول أمكن ببعض أبواب العلم، من الفاضل له بمجموع العلم.
إذا تقررت هذه الأصول الثلاثة، تفرع عليها وجوب قبول الحق من قائله كائناً من كان، والنظر إلى القول دون القائل.
فلا يقال [من فلان حتى يرد على فلان] و [ومن فلان حتى يلزم فلانا] و [ولا نقبل الكلام ممن صفته كذا وكذا] [ولماذا تكلم فلان وسكت فلان] إلى آخر ذلك الركام الخلفي المنتن الذي أزكمت من رائحته الأنوف.