الوجه العاشر: أن إيجاب زيارة قبرة، واستحبابها وشد الرحال إليه لأجل تعظيمه يتضمن جعل القبر منسكاً يحج إلي البيت العتيق كما يفعله عباد القبور ولا سيما فإنهم يأتون عنده بنظير ما يأتي به الحاج من الوقوف والدعاء والتضرع، وكثير منهم يطوف بالقبر ويستلمه ويقبله ويتمسح به، فلم يبق عليه من الأعمال المناسك إلا الحلق والنحر ورمي الجمار، فإيجاب الوسيلة إلى هذا المحذور، أو استحبابها من أعظم الأمور منافاة لما شرعه الله ورسوله.
وقد آل الأمر بكثير من الجهال إلى النحر عند قبور من يشدون الرحال إلى قبورهم وحلق رؤوسهم عند قبورهم، وتسمية زيارتها حجاً ومناسك، وصنف فيه بعضهم كتاباً سماه مناسك حج المشاهد وكان سبب هذا هو الغلو الذي يظنه من علمه تعظيماص ولا ريب أن هذا أكره شيء إلى الرسول قصداً ووسيلة.
الوجه الحادي عشر: أن هذا الذي قصده عباد القبور من التعظيم هو بعينه السبب الذي لأجله حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها، ولعن فاعل ذلك، ونهى عن الصلاة إليها وحرم اتخاذ قبره عيداً، ودعا ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد ولأجله نهى فضلاء الأمة وساداتها عن ذلك، ولأجله أمر عمر بتعفية قبر دنيال (?) لما ظهر في زمان الصحابة، ولأجله منع مالك من نذر إتيان المدينة، وأراد القبر أن يوفي بنذره ولأجله كره الشافعي أن يعظم قبر مخلوق حتى يجعل مسجداً كما قال: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً، ولأجله كره مالك أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لما يوهم هذا اللفظ من أنه قصد المدينة لأجل زيارة القبر.
ولما فيه من تعظيم القبر الزيارة إليه مع كونه أعظم القبور على الإطلاق وأجلها وأشرف قبر على وجه الأرض، فالفتنة بتعظيمه أقرب من الفتنة بتعظيم غيره من القبور، فحمى مالك رحمه الله تعالى الذريعة حتى في اللفظ، ومنع الناذر من إتيانه، ولو كان إتيانه قربة عنده لأوجب الوفاء به، فإن من أصله أن كل طاعة تجب بالنذر سواء كان من جنسها واجب بالشرع، أو لم يكن.
ولهذا يوجب إتيان مسجد المدينة على من نذر إتيانه وقد منع ناذر القبر من الوفاء بنذره، فلو كان ذلك عنده قربة لألزمه الوفاء به، ومن رد هذا النقل عنه وكذب الناقل فهو من جنس من افترى الكذب وكذب بالحق لما جاءه، فإن ناقله ممن له لسان صدق في