والمفسدة وتقديم الراجح منهما ليس فيها ذكر للحاجة الراجحة، وإنما هي دسيسة من دسائس الفتان ليموِّه بذلك على الجهال ويوهمهم أن الفقهاء قد ذكروا ما يؤيد قوله الباطل وهو ما يراه من جواز الربا بالفضل للحاجة، وقد قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
الوجه الرابع: أن يقال: إن الله -تعالى- أباح للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد أن يأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولم يبح له أكل الربا قط، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يأذن في شيء من الربا سوى بيع العرايا بخرصها، ولو كانت الحاجة الراجحة تبيح المحرم- أي تبيح ربا الفضل للحاجة كما زعم ذلك الفتان في مواضع كثيرة من نبذته - لكان ذلك مذكورا في القرآن أو في السنة، قال الله -تعالى-: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}، وقال -تعالى-: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، وعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» رواه الطبراني في الكبير قال الهيثمي: "ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري وهو ثقة".
الوجه الخامس: أن يقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رخص للمضطر الذي لا يجد شيئًا يأكله أن يسأل الناس ما يسد به جوعه، ولم يأت عنه أن رخص في أكل الربا ولو كانت الحالة حالة ضرورة.
فصل
وقال الفتان: "إن الحكمة في تحريم الربا هي إزالة الظلم بنص القرآن الكريم والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، وأن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير، وهذا هو المراد بقوله -تعالى-: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}، ثم نقل عن رشيد رضا أنه قال: لا يخفي أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها فاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} لأنها ضد الظلم وأن المعاملة التي يقصد بها الإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ونقل عنه أيضا أنه قال: ليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام".