والدليل عَلَى صِحَّة مَا نذهب إِلَيْهِ إجماعُ العلماء عَلَى احتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فِيهِ أَوْ يتفقون عَلَيْهِ، ثُمَّ احتجاجهم بأشعارهم، ولو كَانَتْ اللغة مُواضَعَةً واصطلاحاً لَمْ يكن أولئك فِي الاحتجاج بهم بأولى منا فِي الاحتجاج لَوْ اصطلحنا عَلَى لغة اليوم ولا فرق.
ولعلَّ ظاناً يظن أن اللغة الَّتِي دلَلنا عَلَى أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وَفِي زمان واحد. وَلَيْسَ الأمر كذا، بل وقّف الله جلَّ وعزَّ آدمَ عليه السلام عَلَى مَا شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إِلَى علمه فِي زمانه، وانتشر من ذَلِكَ مَا شاء الله، ثُمَّ علَّم بعد آدم عليه السلام من عرَب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً مَا شاء أن يعلمه، حَتَّى انتهى الأمر إِلَى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله جلَّ وعزَّ من ذَلِكَ مَا لَمْ يؤته أحداً قبله، تماماً عَلَى مَا أحسنَه من اللغة المتقدمة. ثُمَّ قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت.
فإن تعمَّل1 اليوم لذلك متعمِّل وجد من نُقَّاد العلم من ينفيه ويُرده.
ولقد بلغنا عن أبي الأسود2 أن أمراً كلمه ببعض مَا أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هَذِهِ لغة لَمْ تبلغك" فقال لَهُ: "يَا ابن أخي لا خير لَكَ فيما لَمْ يبلغني" فعرَّفه بلطف أن الذي تكلم بِهِ مختلَق.
وخلةٌ3 أخرى أنه لَمْ يبلغنا أن قوماً من العرب فِي زمانٍ يُقارب زمانَه أجمعوا عَلَى تسمية شيء من الأشياء مصطلِحِين عَلَيْهِ، فكنا نَستدِل بذلك عَلَى اصطلاح كَانَ قبلهم.
وقد كَانَ فِي الصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم البُلغاء والفُصحاء- النظر فِي العلوم الشريفة مَا لا خفاء بِهِ. وَمَا علِمناهم اصطلحوا عَلَى اختراع لغةٍ أَوْ إحداث لفظةٍ لَمْ تتقدمهم.