وتعالوا نرجع ثانية لموقف الصحابة بعد الكلمات الأخيرة لـ عمر بن الخطاب وللحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟ وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟ وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟ تعالوا نرى.
إذا كان حديث العقل والحجة والبرهان يقسي القلب أحياناً فليكن حديث الوجدان والروح، فتكلم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه الرجل الرصين الهادئ أمين الأمة، وقال جملة من سطر واحد نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، وأول ما قالها الجو هدأ والناس ارتاحت والغضب راح والمناقشة مرت في طريق ثاني.
قال: يا معشر الأنصار! إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير.
إنها كلمة في منتهى الغرابة، إنها كلمات قليلة لكن نزلت على الأنصار فزلزلت كيانهم وهزت مشاعرهم هزاً عنيفاً، أطلق الأمين أبو عبيدة سهماً استقر في قلوب الأنصار قلباً قلباً، الأنصار الذين آووا ونصروا، والذين قالوا: يا رسول الله! اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، والذين قال عز وجل فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] الأنصار الذين قالوا: يا رسول الله! خذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وقالوا: يا رسول الله! نبايعك على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله.
إنها ذكريات رائعة خالدة، وهم الذين قالوا: (فما لنا بذلك يا رسول الله! إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة.
قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه) أفاق الأنصار رضي الله عنهم أجمعين على حقيقتهم العجيبة: أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، وهم أصحاب النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير ولا تأخذ شيئاً.
فارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض إلى مصاف الملائكة والسماء، وتذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد والشهادة، وتذكروا إخواناً قدموا أرواحهم وسبقوا صادقين ما بدلوا وما غيروا، تذكروا سعد بن معاذ، وتذكروا أسعد بن زرارة، وتذكروا سعد بن الربيع، وتذكروا أنصاراً عاشوا أنصاراً وماتوا أنصاراً، وتذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبيب الذي ما فارقوه إلا منذ قليل، الذي ما زال نائماً على سريره لم يدفن بعد، الذي ما زال حياً في قلوبهم وسيظل كذلك حتى يموتون، فانهمرت دموع الأنصار، وقام بشير بن سعد رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي مسرعاً ملبياً لنداء أبي عبيدة وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخاً كبيراً، قام فقال: يا معشر الأنصار! إنا والله! لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضاء ربنا وطاعة نبينا والفتح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً، فإن الله ولي النعمة وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمداً صلى الله عليه وسلم من قريش وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله! ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.
وسبحان الله! تغير خط الحوار في السقيفة بالكلية، وبدأت نفوس الجميع تهدأ، وظهر واضحاً أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن ما كان الأنصار ليقتنعوا لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.
ثم قام أسيد بن حضير رضي الله عنه زعيم الأوس ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين الأوس والخزرج إن تولى أحد الفريقين الخلافة، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين.
ولما رأى الصديق رضي الله عنه وأرضاه أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أنها حجة تدل على ذكاء الصديق وسعة اطلاعه على كتاب الله عز وجل، فقال الصديق رضي الله عنه: إن الله سمانا الصادقين وسماكم المفلحين، وذلك إشارة لقوله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] هذا وصف المهاجرين في القرآن الكريم، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] وهذا هو وصف الأنصار في القرآن الكريم.
ثم انظر إلى الاستنباط الذي قاله الصديق رضي الله عنه وأرضاه، قال