بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ومعه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، وظهور المهاجرين في هذا الوقت قد يعطل البيعة، فالأنصار استقروا على سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، فقد دخل الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين والصاحب القريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول صلى الله عليه وسلم والملهم المحدث الفاروق، ومعه أيضاً أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثير الاستشارة له والاعتماد عليه في أمور كثيرة، فالسيدة عائشة -كما جاء في صحيح مسلم - عندما سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟ فقالت: أبو بكر.
قيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر.
قيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح).
وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه مات في سنة ثمانية عشر هجرية، ولا شك أنه لو كان حياً لكان من الذين اختارهم عمر بن الخطاب ليختاروا من بينهم خليفة للمسلمين بعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين.
إذاً: هنا في هذا الوقت من الممكن أن تحدث مواجهة، فالأنصار يريدون سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، لكن لعل لهم رأياً آخر، وهنا حدثت لحظة هدوء وترقب، فيا ترى ماذا سيقول المهاجرون؟ أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟ أترك لكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يصور لكم الموقف كما جاء في صحيح البخاري ومسلم.
يقول عمر: فانطلقنا حتى إذا أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة.
يعني: أنهم قد وضعوه في مكان في صدر المجلس فلفت نظر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.
يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك.
وفي رواية: وجع يوعك، يعني: مريض.
فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.
يعني: خطيب الأنصار، وهنا حدثت لحظة أكيد من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، ولم يشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري: إنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس رضي الله عنه وأرضاه، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر.
المهم أنه وقف خطيب الأنصار وأراد أن يتكلم كلاماً فصلاً كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أنه تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط.
وفي رواية: رهط منا.
وهذه بوادر مشكلة، فالخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل.
وفي رواية: رهط منا، أي: عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه توقع أن المهاجرين سيريدون الخلافة، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار.
وطبعاً الأنصاري يقصد المهاجرين قبل فتح مكة الذين هاجروا إلى المدينة المنورة والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبر أعداد القرشيين في مكة والذين أسلموا بعد الفتح فسيكونون أضعاف أضعاف الأنصار.
المهم أن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح إلى أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر الذي نصر الإسلام في كل المشاهد والمواقع بنسبة دائماً ما تكون أكبر من المهاجرين.
هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح الخطيب الأنصاري بعد ذلك وقال: وقد دفت دافة من قومكم -يعني: جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، أي: يستثنونا من الخلافة في بلادنا، ثم سكت الأ