وبينما هم كذلك إذ جاء الجبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجازاه خيراً كثيراً عما قدمه لأمة المسلمين، جاء الصديق من السنح -منطقة خارج المدينة- بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابياً سوف يموت حزناً وهماً وكمداً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا شك أننا جميعاً سنقول: إنه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أشد الخلق حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شك أنه قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل من علامات الغضب والثورة والانهيار والتصدع ما لم يفعل أحد غيره.
لا شك أنه قد يخطر ببال أحد أنه سيفعل أكثر مما فعل عمر بن الخطاب مثلاً، لكن إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح ونزل عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة رضي الله عنها حيث مات رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدرها، فتوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، انحدرت ساخنة حارة على وجنتي الصديق رضي الله عنه وأرضاه لفراق حبيب عمره ودرة قلبه وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه يتفطر: (بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)، ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها ويليق بأول من سيدخل الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، وكيف يجزع ويخرج عن المنهج وهو الصديق؟ خرج الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس والناس مكتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقاً، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعود ثانية كما يقول.
قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر! لكن عمر قد أذهلته المصيبة فلم يسمع الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس كانوا قد وجدوا وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أبا بكر، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول.
قال الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، وهذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، قال: ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، والصديق رجل عجيب، يعيش مع القرآن في كل حركة وفي كل سكنة، فما أروع الاختيار! وما أبلغ الأثر الذي أحدثته الآية الربانية في قلوب الصحابة! يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله! لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، وكانت الآية سلوى للمؤمنين وتعزية للصابرين، وجزاءً للشاكرين.
ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول عمر بن الخطاب: والله! ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعثرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
وثبت الله الأمة جميعاً بثبات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهذه واحدة من أعظم حسناته رضي الله عنه وأرضاه، وما أكثر حسناته رضي الله عنه وأرضاه!