عظم قدر الرسول صلى الله عليه وسلم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة قوم فتوفنا غير مفتونين، ونسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ثم أما بعد: فمع الحلقة السادسة من حلقات الصديق رضي الله عنه وأرضاه، كنا في الحلقة السابقة قد استعرضنا جوانب من صفة عظيمة من الله بها على الصديق رضي الله عنه وهي صفة الثبات، قال عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

لا شك أن الصديق رضي الله عنه من هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن هؤلاء الذين عاشوا طويلاً ومروا بأحداث متقلبة ومواقف حرجة، وأزمات طاغية لكنه ما بدل ولا غير رضي الله عنه، بل ظل ثابتاً في كل فترات حياته رضي الله عنه وأرضاه.

وتعرضنا في الدرس السابق لثباته رضي الله عنه أمام فتنة المال وفتنة الرئاسة وفتنة الأولاد وفتنة الهجرة وفتنة غلبة أهل الباطل، وفتنة الفتور عن الطاعة والعبادة، وفتنة الإيذاء وضياع النفس، بل وفتنة الموت، تعرضنا لكل ذلك ورأينا نموذجاً رائعاً لثبات البشر.

ورغم كل هذه المواقف العظيمة فإنه يبقى موقف للصديق يمثل أروع درجات الثبات وأرقى درجات الإيمان، وأعمق درجات الفهم.

وكل الذي قلناه في الدرس الماضي وثبات الصديق في الموقف الذي سنقوله في هذا الدرس يختلف تماماً، وذلك هو موقفه عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كارثة الكوارث ومصيبة المصائب.

والحقيقة أني لا أعتقد أن رجلاً في التاريخ منذ أن نزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض وإلى يوم القيامة نال أو سينال حباً وتقديراً وإجلالاً مثلما نال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ويكفي أن تفكر في هذه الكلمة البسيطة التي ألفنا سماعها واعتدنا ذكرها فلم نقدر لها قدرها الحقيقي وقيمتها الأصيلة، إنها كلمة رسول، رسول من؟ رسول الله.

نحن دائماً نفكر في الشق الأول من الكلمة، رسول نعظمه؛ لأنه رسول، لكن أحياناً ننسى الشق الثاني، رسول الله عز وجل، الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، الله الذي خلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الله الذي خلق الجبال والبحار والأنهار، الله الذي خلق الإنس والجان والملائكة، الله العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تناهت حكمته، الحي القيوم الذي لا ينام، الله عز وجل الرحيم بخلقه، الكريم الحنان المنان، الله عز وجل في علوه وكبريائه وعظمته أرسل إلى خلقه رسولاً يبلغهم رسالته.

أرسل إلى الخلق الضعيف البسيط القليل رسولاً منهم، فأي تشريف؟ وأي تعظيم؟ وأي تكريم؟ وإذا كان البشر قد كرموا بإرسال الرسول إليهم فكيف بالذي اصطفاه الله من بلايين الخلق كي يرسله إلى الناس برسالته؟ وليست أي رسالة، ولكن الرسالة الأخيرة الخاتمة.

ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صنعه الله على عينه، وخلقه ورباه وعلمه وأدبه وحسن خلقه، وقوى حجته، وزكى سريرته، وطهر قلبه، وجمل صورته، وحببه إلى خلقه، وحبب الخلق جميعاً فيه، فلا يراه أحد إلا وأحبه، ولا يسمع به أحد إلا وأحبه، ولا يقرأ عنه أحد إلا وأحبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البشر وأفضل الدعاة وسيد المرسلين وخاتم النبيين.

فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوفى حقه في مجلدات ومجلدات ولا في أعوام وأعوام، فقد وضع الله فيه خلاصة الفضائل البشرية.

وكلما تعرضت لجانب من جوانب حياته صلى الله عليه وسلم حار عقلك كيف كان على هذه الصورة البهية النقية، ولا تملك إلا أن تقول: سبحان الذي صوره فأحسن تصويره، وأدبه فأحسن تأديبه، وعلمه فأحسن تعليمه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على علو قدره وسمو منزلته يعيش وسط الصحابة، يخالطهم، وكان يصلي بهم ويعلمهم، وكان يتحمل الأذى معهم، يجوع مع جوعهم أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، ويهاجر كما يهاجرون، ويقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون.

وكان صلى الله عليه وسلم يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشرب منه الناس، ويجلس على ما يجلس عليه الناس، لم تزده كفة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، وكان أكثر الناس كرماً، وأقواهم بأساً، وأشدهم حياءً، وكان يمنع الناس من القيام له، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، وتسير به الأمة في شوارع المدينة أينما شاءت.

وكان يخصف نعله، ويخيط

طور بواسطة نورين ميديا © 2015