النقطة الثالثة: أن هذا الحدث الهام هو بداية حياة المسلمين بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا أمر يدعو إلى الاهتمام، فغياب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جلل، والأصعب من ذلك غياب الوحي، وانقطاعه عن الأرض إلى يوم القيامة، يظهر هذا واضحاً من قصة أم أيمن رضي الله عنها: روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها) وأم أيمن كانت بمثابة الأم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت الحاضنة له بعد وفاة آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما أبكي ألا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها).
فالصحابة كانوا يعايشون الوحي، وتخيل معي هذا الأمر الفريد: كل يوم أو يومين يحدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريده الله عز وجل منهم: الله يقول لكم كذا، الله ينهاكم عن كذا، الله غفر لفلان، الله يحب فلاناً، الله يبشر فلاناً بالجنة، الله يوضح لكم سبب النصر في هذه الغزوة، والله يوضح لكم سبب الهزيمة في غزوة أخرى.
وإذا اختلفوا نزل الوحي يؤيد رأياً على رأي، ويعدل المسار، ويصحح الوجهة، وفجأة انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطعت العلاقة التفاعلية بين الصحابة وبين الله عز وجل، وأصبح عليهم أن يجتهدوا في أن يعرفوا أين غضب الله وأين رضاه؟ وإذا اختلفوا فعليهم أن يختاروا رأياً دون انتظار التعديل الإلهي.
نعم وضع الله ورسوله لهم قواعد محددة للسير عليها، ولكن شتان بين الموقف قبل انقطاع الوحي والموقف بعد انقطاع الوحي.
فحادثة استخلاف أبي بكر الصديق هي أولى الحوادث التي تمت في هذا الجو، ولابد أن في دراستها عبراً لا تحصى وفوائد لا تقدر بثمن.