أخيراً: أين حظ النفس عند الصديق في الحياة؟ ظل الصديق منذ أسلم وحتى مات زاهداً في حياته، معرضاً نفسه للخطر تلو الخطر لم ينظر لحياته مطلقاً، وانظر إلى موقف رائع تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها: تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلاً -يعني: في أوائل فترة مكة- ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: (يا أبا بكر! إنا قليل)، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، ويبدو أن هذا لم يكن ظهوراً كاملاً للمسلمين؛ لأنه من المعروف أن الظهور الكامل لم يكن إلا بعد إسلام عمر رضي الله عنه، ولما ذهبوا إلى المسجد الحرام لم يكتف الصديق بمجرد الظهور، بل وقف خطيباً يدعو إلى الله تعالى، ويدعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، ولذا يقولون: إن الصديق هو أول خطيب في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا كان رد فعل المشركين؟ ثار المشركون ثورة عنيفة وقاموا يضربون الصديق ضرباً عنيفاً، وتنكروا لأعرافهم في الجاهلية، ونسوا مكانة الصديق المرموقة في المجتمع المكي القديم، وأكل الحقد قلوبهم، وما زال بهم الحقد حتى أعمى أبصارهم، تقول السيدة عائشة: ودنى الفاسق عتبة بن ربيعة من الصديق رضي الله عنه وأرضاه وجعل يضربه بنعلين مخصوفين في وجهه حتى ما يعرف وجهه من أنفه، فتورم وجهه حتى أصبحت ملامح الوجه غير معروفة، والأنف اختف في خلال الوجه، وجاء بنو تيم يتعادون، وبنو تيم هي قبيلة أبي بكر الصديق، فأجلوا المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم إلى المسجد وقالوا: والله! لئن مات أبو بكر لنقتل عتبة بن ربيعة، ثم رجعوا إلى أبا بكر فجعلوا يكلمون أبا بكر وهو في إغماة طويلة حتى أفاق آخر النهار، فرد عليهم، فماذا قال؟ أول كلمة قالها: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله! حتى وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت! وبنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، بل كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهاهم على وشك أن يفقدوا علماً من أعلامهم وهو الصديق رضي الله عنه.
ثم هاهم على أبواب معركة لا يحمد عقابها مع قبيلة عبد شمس قبيلة عتبة بن ربيعة، وليست بالقبيلة الهينة في قريش، وهاهم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة، ولا شك أنهم إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذا في عرف العرب إهانة لا تستقيم لهم بعده حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق ويلومونه ويكيلون له الكلام بما فيهم أبوه أبو قحافة، ومع ذلك فـ الصديق لا يقول إلا شيئاً واحداً: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والتفتوا إلى أمه أم الخير -وكانت آنذاك مشركة- وقالوا: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه شيئاً، فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه وتسقيه، لكنه جعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يستطيع أن يأكل أو يشرب إلا بعد أن يطمئن على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمي عليها ثم أفاقت، أيكون لها من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟ هكذا أحب الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يزيد والله! قال الصديق لأمه: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها عمر كان مشركاً، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت: إن أبا أبا بكر سائلك عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا نرى موقفاً لطيفاً من أم جميل رضي الله عنها، المرأة المسلمة الواعية الحذرة، خشيت من أم الصديق؛ لأن أم الصديق لا زالت مشركة أفتكشف نفسها وتعرف بإسلامها أمامها ببساطة أو بسهولة؟ لا، وإن فعلت وكشفت إسلامها أتثبت لها أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس مع الصحابة في دار الأرقم، ودار الأرقم مجه