ثم أين حظ النفس عند الصديق في الانتصار لنفسه بعد الظلم؟ فهذا موقف من أروع مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكل مواقفه رضي الله عنه رائعة: لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق السيدة عائشة أم المؤمنين وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنة الصديق رضي الله عنهما، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاث رضي الله عنه، والحقيقة أن الذين تكلموا كلهم في حقها في كفة، ومسطح رضي الله عنه وأرضاه في كفة لوحده؛ لأنه: أولاً: هو من المهاجرين، ليس منافقاً أو حديث إسلام.
ثانياً: هو ابن خالة الصديق ومن أعلم الناس بـ عائشة رضي الله عنها، الطاهرة المطهرة، البريئة العفيفة الشريفة.
ثالثاً: كان الصديق يعوله وينفق عليه، فـ مسطح كان فقيراً وجعل الصديق على نفسه أن يعطي له عطاءً ثابتاً يكفله به، وبعد كل هذا طعن في السيدة عائشة ولم يطعن فيها بخطأ بسيط أو هفوة عابرة، لا، بل طعن في شرفها، واتهمها أنها فعلت جريمة الزنا وهي متزوجة، ومتزوجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي جريمة تلك التي فعلها مسطح رضي الله عنه؟ لكن الصديق فعل أقل رد فعل طبيعي متوقع من رجل طعن في شرف ابنته، ويشعر بالظلم الشديد، فحلف الصديق ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً، وننتبه أن الصديق لا يمنع حقاً كان يعطيه لـ مسطح، ولكنه يمنع فضلاً كان يتفضل به عليه.
ثم مر شهر كامل عصيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصديق رضي الله عنه، وعلى عائشة رضي الله عنها، وعلى سائر المؤمنين، ثم نزلت آية البراءة وأقيم على المتكلمين في عرض السيدة عائشة حد القذف ثمانين جلدة، وبعد هذه الآيات نزلت آية خاصة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فيها خطاب رقيق من رب العالمين للصديق.
ونحن مهما عملنا لن نقدر قدر الصديق رضي الله عنه، يقول الله عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22]، يعني: ولا يحلف، {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22]، انظر يصف الصديق بأنه {أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22]، والعلماء لهم تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين للصديق بأنه من أولي الفضل، والفضل هكذا على إطلاقه يعني كل أنواع الفضل.
حتى إن الرازي رحمه الله استخرج منها أربعة عشر فضلاً للصديق.
قال عز وجل: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22]، وانظر رحمة ربنا حتى بالذين وقعوا في عرض زوجة حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22].
ثم جاء نداء رقيق ودود: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22]، وانظر إلى ردة فعل الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: بلى والله! إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا! وندم على قطعه للنفقة، وأقلع فوراً عن إمساكها، فأرجعها إلى مسطح وعزم على ألا يعود إلى قطعها أبداً، فقال: والله! لا أنزعها أبداً، كل هذا وليس بذنب بل قطع فضلاً، ولم يقطع حقاً لـ مسطح، ونحن يا ترى كم مرة نسمع نداء المغفرة من الله عز وجل وعندنا ذنوب كبيرة، كم مرة نسمع: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [النور:22]، فنقول: إن شاء الله ربنا يتوب علينا، وما زلنا مصرين على الذنب.
وكم مرة نسمع: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فنقول: إن شاء الله، لكن لما أحج، أو لما أتزوج، أو لما أكبر قليلاً، أو لما ربنا يريد.
وكم مرة نسمع: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ *