وتعالوا ننظر بعض المواقف الأخرى التي تجعلنا نفهم معنى السبق في حياة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان من المستحيل حصر كل هذه الأمثلة في حياته، فهي حياته كلها: تعالوا ننظر حرصه وسبقه وحسمه في الاطمئنان على صدق إيمانه، وعلى سلامة عقيدته، وطبعاً هذا الكلام ممكن يتعجب منه الكثير، فقد نفهم أن عرض قضية سرعة إسلامه للمناقشة كان لغرابتها، ولكن الجميع يعلم أنه منذ أن أسلم وهو أعلى الصحابة إيماناً وأمتنهم عقيدة فكيف يسارع إلى الاطمئنان على عقيدته وإيمانه؟ هل من الممكن أن يشك أحد في هذا الإيمان، وفي هذه العقيدة؟ اسمع إلى هذه القصة العجيبة: روى الإمام مسلم رحمه الله عن حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب أحد كتاب رسول الله قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟! وهذا سؤال عادي، الصديق رضي الله عنه وأرضاه يطمئن على حال حنظلة بسؤال عادي، لكن حنظلة رد بإجابة غير عادية إجابة غريبة جداً فقال: نافق حنظلة، وحنظلة من الرجال المشهود لهم بالإيمان، فكيف يقول ذلك عن نفسه؟ تعجب الصديق كما تعجبنا وقال: سبحان الله! ما تقول؟ فبدأ حنظلة رضي الله عنه وأرضاه يفسر كلماته العجيبة فقال: (نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) يقصد أننا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم نتأثر كثيراً بالكلام عن الجنة والنار حتى كأننا نراها عياناً بياناً.
ومن المؤكد وهم في هذه الحالة أنهم يعتزمون ألا يفعلوا شيئاً في حياتهم إلا أفعال الآخرة فقط، ينوون أن يخرجوا فيفردون الأوقات الطويلة في الصلاة، والقرآن والقيام والدعوة والجهاد وغير ذلك، ويصبحون في حالة زهد تام في الدنيا ومتاعها، لكن إذا خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلطوا بأمور الحياة الطبيعية، كما قال: عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، يعني: عالجنا ولاعبنا وتعاملنا واختلطنا مع الأزواج والأولاد، والمعايش المختلفة.
وعند هذه الحالة الأخيرة ينسون كثيراً مما سمعوه من رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
هذا التباين في المواقف بين حالتهم في مجلس العلم وحالتهم في معترك الحياة العامة عده حنظلة نفاقاً، وكان من المتوقع من أبي بكر الصديق الذي يزن إيمانه إيمان أمة أن يهون الأمر على حنظلة، ويوضح له أن ذلك يعتبر شيئاً طبيعياً من المستحيل على المرء أن يظل على حالة إيمانية مرتفعة جداً دون هبوط ولو قليل.
كان من المتوقع من هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه الذي لا يشك أحد في إيمانه، والمبشر بالجنة تصريحاً والمقدم على غيره دائماً، كان من المتوقع منه أن يحادثه في قضية الإيمان برابطة جأش، وثبات قدم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رجل مفاجآت وقف يحاسب نفسه بسرعة عقله وكان لا يتوقف عن مساءلة نفسه ولو للحظة، وقلبه لا يطمئن إلى عظيم إيمانه، فحاسب نفسه بصراحة ووضوح، فكانت المفاجأة العظمى أن قال: فوالله إنا لنلقى مثل هذا.
أبو بكر الصديق المشهود له بالإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ليس إيماناً عادياً، بل إيمان كإيمان أمة أو يزيد، المشهود له بالتقوى من الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17] يعني: أبا بكر.
هذا الرجل يجد في نفسه هذا الأمر الذي خشي أن يكون نفاقاً، ومع أن الخاطر عجيب، ومع أن الهاجس غريب، ومع أنه من الطبيعي تماماً لرجل في مكانته أن يترك هذه الأفكار بسرعة إلا أن الصديق ليس كذلك.
الصديق يسبق إلى الاطمئنان على إيمانه، فإذا به يسارع مع حنظلة رضي الله عنه إلى الذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للاطمئنان على قضية الإيمان.
يقول حنظلة رضي الله عنه: (فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: وما ذاك؟ قال حنظلة: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً) وهنا يتكلم الطبيب الماهر والحكيم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! كأني ألحظ على وجهه ابتسامة بسيطة وبشراً في أساريره، وحناناً في صوته وهو يقول في هدوء: (والذي نفسي بيده! لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا