وهناك أناس كثيرون جداً فهموا حقيقة هذا الدين، لكن افتقروا إلى الإيجابية، وأناس كثيرون جداً غرقوا في السلبية وعاشوا على كلمة: وأنا ما لي؟ فكانت هذه الكلمة سبباً في هلاكه وهلاك المجتمع.
من أجل أن نفهم قيمة إيجابية الصديق تعالوا نقارنه برجل من حكماء قريش وعقلائهم كما يقولون، لكنه كان يتسم بسلبية قاتلة فهلك وأهلك من حوله، إنه عتبة بن ربيعة، لما سمع كلام الله عز وجل على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأثرت فيه الآيات المعجزات من صدر سورة فصلت، عاد إلى قومه مسرعاً يتحدث عن القرآن، وكأنه داعية من دعاة الإسلام فقال: سمعت قولاً والله! ما سمعت مثله قط، والله! ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة.
لكن ماذا كانت النتيجة بعد هذا اليقين بصدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ استمع إليه وهو يعرض رأيه: يقول عتبة بن ربيعة: يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله! ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد! بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
لكن الرجل عتبة بن ربيعة سلبي إلى أبعد درجات السلبية، فهو على يقين من صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن هذا الكلام ليس بكلام البشر، ومع هذا فرأيه الذي يظنه حكيماً أن تخلي قريش بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين العرب، فإن انتصر العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم مع العرب، وقد أراحوا أهل قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصبهم أذى الحروب، وإن انتصر محمد صلى الله عليه وسلم على العرب سارعوا بالانضمام إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه سلبية مطلقة، فلما اعترض القوم على كلامه وقالوا: سحرك والله! يا أبا الوليد! بلسانه، ماذا فعل أبو الوليد الرجل العاقل الحكيم الذي أدرك صدق الرسالة؟ قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم، والقوم صنعوا السيئ والقبيح، فإذا به يصنع السيئ والقبيح معهم، بل إنهم خرجوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم في بدر فإذا بـ عتبة بن ربيعة يحمل سيفه ويخرج مع الكافرين يقاتل رجلاً تيقن أنه نبي.
فأي سلبية هذه؟ وأي إمعية هذه؟ هذا الطراز الفاشل من الرجال لا يصلح للدعوات المصلحة.
وإذا نظرنا إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه فليس في الإسلام رجل بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبعد عن السلبية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ظهرت إيجابيته في كل مواقف حياته رضي الله عنه، ظهرت في إسلامه، وظهرت في إعتاقه للعبيد، وفي دفاعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً في مكة أو في المدينة، وظهرت في إعداده للهجرة، وظهرت في ثباته في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهرت كذلك إيجابيته عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت في حروب الردة، وظهرت في فتوح فارس والروم، وظهرت في جمعه للقرآن، وظهرت إيجابيته في كل نقطة من نقاط حياته، وفي مساعدته للفقراء والمحتاجين وكبار السن، وفي معاملاته مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه وأرضاه نبراساً لكل مصلح، ودليلاً لكل محسن، ما رأى معروفاً إلا وأمر به، وما رأى منكراً إلا وحاول تغييره بكل طاقته بيده ولسانه وقلبه، لذلك شق عليه كثيراً أن يرى بعض المؤمنين يتركون النهي عن المنكر؛ لأنهم فهموا آية من آيات الله عز وجل على غير معناها الصحيح.
سمع بعض المؤمنين الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105]، فظن بعض المؤمنين أن هذه دعوة إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وظنوا أن الله يقول لهم: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} [المائدة:105] أي: اهتموا بأنفسكم فقط، ولا يضركم ضلال غيركم، فلا تهتموا بهم، والأمر على خلاف ذلك تماماً، فوقف أبو بكر رضي الله عنه ليصحح لهم الفهم، وليصلح لهم الطريق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه) روى ذلك أصحاب السنن والإمام أحمد رحمهم الله جميعاً، وهكذا فإن هذا الرجل الإيجابي كان ولابد أن يسعى للتغيير والإصلاح، وإذا وجد المنهج القويم المعين