ومن ذلك ما قاله عند قوله الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
قال: هذه الآية: "جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة ما سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير" فهو يرى أن انفراد الله وحده بالخلق والرزق والتدبير دليل واضح على وجوب إفراده بجميع أنواع العبادة؛ لذا قال بعد ما تقدم: " فإذا كان أحد مقراً بأنه ليس له شريك بذلك فعليه الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته" بل إنه يرى أن هذا أوضح دليل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة؛ لذا يقول: "وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري تعالى وبطلان الشرك"2.
وفي الآية المتقدمة نفسها ما يوضح أيضاً أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية حيث يقول سبحانه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله سبحانه: (وأنتم تعلمون) ، يوضح أن المشركين يعلمون أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في الألوهية والكمال، ولكنهم مع ذلك يشركون معه في العبادة.
لذا قال ابن سعدي مخاطباً هؤلاء: "كيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه"3.
والمقصود: أن هذا النوع من التوحيد "توحيد الربوبية" لا يوجد أحد من الخلق ينكره، حتى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية وقال عن نفسه "إنه رب العالمين" يقرر ويعترف بهذا التوحيد، وإنكاره له من قبيل المكابرة والجحود، قال تعالى في بيان ذلك: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 4 أي إنك تعلم يا فرعون أن المنزل لهذه الآيات هو رب السموات والأرض بصائر منه لعباده فإنكارك ليس على الحقيقة بل ترويجا على قومك واستخفافاً لهم.