كانت الليلة الثانية وإذا به سكران أكثر من الليلة الأولى وهو يقول:
يقولون تُبْ والكأسُ في كف أغيدٍ ... وصوتُ المثاني والمثالثِ عالي
فقلتُ لهم لو كنت أضمرت توبةً ... وعنيت هذا في المنامِ بدا لي
فأحاطوا به أيضاً، وقالوا أليس تقدم معك بالأمس ما يغني عن إعادة القول؟ قال: فإني بت وأنا سكران، وملت إلى النسيان فإن عاقبتم فلكم الفضل وأن عفوتم فلكم
الأجر. فحذروه أن لا يعود ومضوا فلما كانت في الليلة الثالثة وإذا به سكران أكثر مما قبلها وهو يقول:
يا مَن لصبٍ كئيب دَابَ من أسَفٍ ... أضحتْ حَشَاه بنارٍ الهجرِ تلتهبُ
يموت وَجداً ولكن دونَ وصلِكم ... تعطفوا فلكم يبكي وينتحبُ
فامسكوه وأحضروه بين يدي مروان، فضرب الحد، فلما فرغوا من جلده ثمانين، قال: أصلح الله الأمير إني عبد وقد جلدتني جلد الأحرار فأعطني حق جنايتك علي، فقال: أعطوه حق جنايتنا عليه. فقال: أصلح الله أمير المؤمنين أن رأى أن يعطيني حق جنايته على شرب الخمر لمن يريد فليفعل فاستظرفه وجعله من جلسائه.
وقال عبد الله بن سلمة بن جندب:
قل للمليحةِ في الخمارِ الأسودِ ... ماذا فعلتِ بزاهدِ متعبدِ
قد كان شمَّرَ للصلاةِ ثِيابَه ... حتى وقفت له بباب المسجدِ
ولهذه الأبيات حكاية أظرف من التي قبلها، وهي أن عبد الله بن سلمة بن جندب ذكر يوماً عند المهدي فاستظرفه فقيل له ما يعجبك من ظرفه قال: قدم تاجر عراقي إلى المدينة ببز كان معه، فباعه كله إلا خمراً سوداً فلم يبع منها شيء لكسادها، وعزم على ردها لبلده فقال له جندب: ماذا عليك أن نفقتها لك؟ قال: جميع الربح. قال: لا ولكن أقنع بنصفه. قال: نعم. فذهب ابن جندب إلى بيته ونظم هذين البيتين:
(قل للمليحة في الخمار) إلى آخرها وصاغ لهما لحناً وغناه حكم