هاتين الظاهرتين المتناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي نشأت ظاهرة الصعلكة.

وقد حصرت البيئة الجغرافية لأعراب البادية مواردهم الطبيعية في المراعي، ووقفت ظروفهم الحضارية بمجال عملهم عند الرعي، ومن هنا انحصرت ثروتهم في قطعان من الإبل والغنم والمغز. ومن الطبيعي أن تكون الإبل مقياس ثروتهم، فهي خير ما في هذه الثروة، وقد سموها "النعم"1؛ لأنها النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وقد كان من عوامل سقوط اعتبار الفرد في الهيئة الاجتماعية أن تقوم المعز أو صغار الماشية في حياته مقام الإبل2، وبينما كانت المعز مادة يشتق منها الساخرون من الهجائين عناصر سخريتهم، كانت الإبل مادة يشتق منها المادحون عناصر مدحهم، أما الغنم فليست بحيوان الصحراء الأول، لشدة حاجتها إلى المراعي، وقلة صبرها على الماء. ومن هنا كانت الإبل حيوان الصحراء الأول بلا منازع، والدعامة التي تقوم عليها ثروة أبنائها، وبحق سموها مالا3؛ لأنها -على حد التعبير الاقتصادي الحديث- "الرصيد" الذي تعتمد عليه "ميزانيتهم"، و"العملة" التي يتعاملون بها في حياتهم، "منها مهور نسائهم، وديات دمائهم، ورهن ميسرهم"4. ولهذا كانت كل قبيلة تتخذ "وسما" خاصا لإبلها تميزها به5، كما تتخذ كل دولة في العصر الحديث رسما خاصا لنقدها.

وكانت ثروة الأفراد في المجتمع البدوي تقاس بمقدار ما يملكون من الإبل، "فكل ثرائهم كان يقوم بالإبل"6، وما أكثر ما نسمع عن أولئك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015