وإلزامهم حدود الطاعة قدر المستطاع، إلا أنه بقي لهذه الصحراوات من الخصائص ما تميزت به إلى حد ما عن غيرها.
فعلى نحو ما ظل النيل أبًا حانيًا لحضارة المصريين القدماء، على الرغم من الجبروت الظاهر لفيضاناته كانت صحراواتهم الجافة الموحشة أمًّا لحضاراتهم من حيث لم يحتسبوا. فقد أدى اتساع فيافيها الداخلية الخطرة إلى التقليل من إمكانية استخدامها سبيلًا للغزوات الشعوبية الخارجية التي كان يمكن أن تهدد استقرار وادي النيل الأخضر، وبذلك تحقق للمصريين نصيب كبير من الوحدة الجنسية النسبية ومن الأمن الدولي القديم. وكفلت لهم صحاراهم ومرتفعاتها، على الرغم من وحشتها، بعض مقومات مدنيتهم المادية، نتيجة لوفرة معادنها وفرة نسبية، وكثرة أحجارها مع تعدد أنواع هذه الأحجار وألوانها وضخامة بحورها مما سمح لهم بأن يقيموا على مر الزمن أضخم وأروع عمائر حجرية عرفها العالم القديم قبل نهضة الإغريق. بل إن رمال الصحراء القريبة من وادي النيل لم تكن بدورها بغير أثر في تزكية آمال المصريين في الخلود حيت استغلوا جفافها لصيانة رفات موتاهم ومقتنيات مقابرهم سليمة لآماد طويلة.
وما من بأس في أن يضاف إلى كل ذلك أن ما لقيه المصريون الأوائل من متاعب بيئتهم يقل كثيرًا عما عاناه بعض جيرانهم الشرقيين من مشكلات بيئاتهم، لا سيما إذا قدرنا أن البيئة المناخية في مصر كانت ولا تزال غير ذات تأثير معاكس على وجدان أهلها على الرغم من جفافها وقلة أمطارها، فهي إذا قورنت بكثير غيرها بيئة مأمونة العواقب هينة الحدة قليلة التقلب، ليس فيها من صراع الظواهر الطبيعية أو مظاهر الرهبة والصخب العنيف ما يوجه أهلها إلى اعتياد الصخب والعنف أو يطبعهم بطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب الأهواء والمشاعر والعادات. ولهذا لم يكن من الغريب، أن يترتب على ما ألفه المصريون القدماء من غلبة الخير على الشر في أحوال نيلهم وواديهم وصحراواتهم ومناخهم بعض الأثر في صبغ حضاراتهم الطويلة بصبغة غالبة من مظاهر الاستقرار والاتصال، وصبغ حياتهم السياسية بطابع الهدوء والاستمرار، ثم الإيحاء إليهم بنوع من الشعور التلقائي بالكفاية، كفاية الجهد المنتج في الأرض، وكفاية الموارد النسبية بها، فضلًا عن كفاية مقومات الحضارة في بلدهم بوجه عام وبغير حاجة إلى مدد خارجي كبير.
ولم يكن انطباع المصريين بيسر البيئة واستقرارها ووضوح معالمها بغير أثر مرة أخرى في ثبات تقاليدهم الاجتماعية والثقافية، وصبغ إنتاجهم الفني القديم بصبغة غالبة من بساطة الخطوط ووضوح التعبير وسماحة الهيئة والطابع إذا قورن بغيره من الفنون القديمة، وذلك فضلًا عن ثبات عقائدهم الدينية التي استوحوها من بيئتهم، وبعدهم عن مظاهر التعصب المذهبي وتغليبهم طابع الرحمة في أربابهم على طابع العنف والنقمة. بل ولم يكن بغير أثر كذلك في تزكية آمالهم في عالم أخروي مستقر يجدون فيه أحسن ما استحبوه من الطمأنينة والكفاية والاستقرار في دنياهم.
وعلى أية حال، فليس في كل هذا ما يؤدي بالضرورة إلى تفضيل بيئة مصر على بيئة غيرها أو تفضيل حضارة شرقية على أختها، وإنما يكفي الاستشهاد به على ما يمكن أن يتأتى من تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وبين أهلها، هنا وهناك، وما قد يترتب على ذلك من اصطباغ حياة الشعوب بخصائص معينة تحتسب لها أحيانًا أو تحتسب عليها أحيانًا أخرى.