هيأت لمصر طريقها الحضاري القديم عوامل طبيعية وبشرية عدة، كان منها موقعها الجغرافي المتميز، وضخامة نصيبها من نهر النيل، وتجدد خصوبة أرضها، وانبسط سطحها، وقلة العوائق الطبيعية الحادة فيها، واعتدال مناخها بما لم يعق نشاط إنسانها القديم، وتوفر عدد من المواد الأولية الأساسية في ساحتها، وتميز حدودها بحصانة طبيعية نسبية على الرغم من شدة اتساعها وطول امتدادها. ولم يقل أثرًا عن ذلك كله في دفع مسيرة الحضارة المصرية كثافة أعداد أهلها كثافة نسبية، مع جلدهم ووحدة لغتهم وندرة الفوارق الجنسية بينهم، وسهولة الاتصالات بين جماعاتهم، وقدم إدراكهم لوحدة وطنهم، فضلًا عن استقرار نظم الحكم الداخلية بينهم في أغلب عصورها، وكلها عوامل ساعدت على نمو الحضارة المصرية في عصور مبكرة واستمرار نضجها واتصال حلقات تطورها.
ولسنا نعني بتعداد كل هذه العوامل أنها حققت "المثالية" في تاريخ مصر وحضارتها بحكم الضرورة، ولكننا نعني بتقديمها أنها كانت من المقومات الأولية لتكييف التربة التي نشأ تاريخ مصر القديم فيها، وأنها كان من العوامل المساعدة على إظهار الجوانب الطيبة فيه، بغير أن ننفي قيام عوامل أخرى مضادة لها من داخل مصر ومن خارجها.
سمى المصريون القدماء أرضهم باسم "كيمة"، بمعنى السوداء أو السمراء؛ إشارة إلى سمرة تربتها الطينية وخصوبتها. وكثيرًا ما عبروا عنها باسم "تاوي" أي الأرضين، أرض الدلتا وأرض الصعيد. وارتبط الاسم الشائع "مصر" في اللغة المصرية واللغات السامية القديمة بمترادفات تدل على معاني الحد والحاجز والمكان الحصين فضلًا عن البلد المتمدين. كما يحتمل أن تسميتها باسم إيجبت الشائع في اللغات الأجنبية منذ أيام الكُتاب الإغريق في تحرف في أصله عن اسم آجبة المصري بمعنى الفيضان. وذلك إلى جانب أسماء أخرى وكنيات يمكن مراجعة مدلولاتها في الفصل الأول من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها.
تقسم عصور الحضارة المصرية القديمة تقسيمًا اصطلاحيًّا إلى ثمان وحدات اعتبارية كبيرة، تمايزت كل وحدة منها عن أختها من حيث أمدها الزمني وطاقتها البشرية ومستوياتها الحضارية، ولكن اتصلت كل واحدة منها اتصالًا تطويريًّا وثيقًا بسابقتها كما مهدت بتطوراتها للاحقتها. وقد تعاقبت بمصادرها القديمة على النحو التالي الذي نصوره ها هنا في إيجاز:
أولًا- دهور ما قبل التاريخ: وهذه أسلفنا في صفحات سابقة ما اتصفت به من امتداد زمني طويل وظواهر مناخية متمايزة، ومصنوعات متواضعة بطيئة التطور، خلال بحثنا لما قبل التاريخ في الشرق الأدنى القديم بوجه عام، ولم نستثن منها للدراسة التفصيلية بكل قطر على حده سوى خصائص آخر عصورها،