ففسرت مدارس النحت دعوة العهد الجديد، على أنها دعوة إلى التحرر من كثير من الأوضاع والأساليب القديمة، وأرادت أن تترجم عن هذا التحرر بتمثيل الأشخاص على هيئاتهم الدنيوية، دون تجميل مقصود، ودون مثالية مكشوفة. ومرت في تحررها بمرحلتين:

مرحلة بدأت بها في مدينة طيبة عندما كان أمنحوتب الرابع "آخناتون" لا يزال مقيمًا فيها خلال الفترة الأولى من حكمه، وهي مرحلة اتصفت فنونها بالمغالاة والاندفاع، شأنها في شأن فنون كل دعوة جديدة في أوائل أيامها. وبدأت مدرسة النحت المتحرر حين ذاك بالفرعون نفسه، فنحتت تماثيله بسمات جسمية صادقة، فأظهرت وجهه مستطيلًا، وذقنه طويلة مترهلة، وشفتيه غليظتين، ورقبته نحيلة، وبطنه منتفخة، وفخذيه غليظين1.

ثم ظهرت المرحلة الثانية لمدرسة النحت الجديدة المتحررة في مدينة العمارنة بعد أن انتقل آخناتون ببلاطه إليها، كانت مرحلة استقرت فيها أوضاع الدعوة الجديدة، واستقرت أغراضها وهدأت حميتها، فنحت المثالون تماثيل الفرعون وأسرته على هيئات سواء مقبولة، تخلوا فيها عن العيوب التي ظهرت لأبدانها في طيبة، واهتموا اهتمامًا بالغًا بدراسة الوجوه وأحاسيس أصحابها، وتجلت آثار هذه الدراسة أكثر ما تجلت في وجه آخناتون ووجه زوجته الجميلة نفرتيتي، فظهر كل منهما في روحانية ووداعة، ومظهر متفلسف حالم، ورقة ملكية مستحبة2.

واشتهر من مثالي العمارنة حين ذاك ثلاثة فنانون، وهم: باك وأوتى وتحوتمس3، واحتفظ هذا الأخير في داره بمجموعة من التماثيل ورءوس التماثيل الصغيرة للملكة نفرتيتي وزوجها وبناتها، بعضها كامل الصنع وبعضها لم يتم صنعه4، ولكنها في مجملها لا تقل رقة وحلاوة وإتقانًا عن تمثال نفرتيتي النصفي الذي احتفظ متحف برلين به وطبقت شهرته آفاق العصر الحديث. وتخلفت معها أقنعة جصية لرجال ونساء تكاد تنطق من فرط واقعيتها وصدق تعبيرها، وكان الفنانون يتخذونها فيما يبدو نماذج لما ينحتونه من موجه تماثيل أصحابها5.

وسارت مدارس التصوير والنقش في العمارنة على التقاليد نفسها التي جرى فن النحت عليها في عهدها، وكانت مجالاتها أرحب من مجالات النحت، في التعبير عن الحركة، وتصوير الواقع، والجرى مع مظاهر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015