أكثر منها شمسية1، ربما لشدة هجير الشمس وقلة نفعها بالنسبة لأهل الصحاري بخاصة، وإن لم يصرفهم هذا عن إجلال ربتها ورهبتها.
وأخيرا فليس من شك في أن التنوع البيئي والمعيشي والوجداني والسياسي الذي أوجزناه لأجزاء شرقنا الأدنى القديم داخل وحدته الجنسية واللغوية القديمة الكبيرة، كان مسئولًا إلى حد كبير عن مظاهر التنافس السياسي والحربي التي نشبت بين شعوبه من حين إلى آخر وقطعت عليها سلامها واطمئنانها لفترات، وكان مسئولًا كذلك عن سوء فهم فريق منها للفريق الآخر أحيانًا، ليس على مستوى الشعوب وحدها بل وبين طوائف الشعب الواحد أيضًا في بعض الأحوال، لا سيما في مناطق العراق وبلاد الشام.
ولكن ليس من ريب كذلك في أن ذلك التنوع لم يكن في الوقت نفسه بغير قيم وفوائد حيوية لشعوبه. فقد كان من شأنه أن يحفظ لكل شعب منها شخصيته الإقليمية واضحة، وأن يكفل لكل شعب منها خبراته الخاصة التي اعتز بها واشتهر بها، وأن يطلق العنان لخيال أصحابه كي يشيدوا بعراقتهم وأصالة موطنهم كيفما شاءوا، أن يؤدي إلى ثراء فنون المنطقة في مجملها، وإلى تعدد صناعاتها، باختلاف مقوماتها واختلاف أذواق أصحابها، وإلى فتح مجالات المنافسات الاقتصادية والفنية المشروعة بينها في الأسواق الداخلية والخارجية وكان من شأنه كذلك أن يفتح مجالات الاتصال الحيوية بين حضارات أهله، حين كان يلزم أصحاب كل حضارة بأن يستكملوا ما ينقص بيئتهم من المواد الأولية والكمالية ومن الخبرات الصناعية والفنية من أصحاب الحضارة الأخرى.
ولا زال مدى تأثير كل حضارة من الحضارات الشرقية في أختها، موضعا لمجادلات تاريخية وأثرية طويلة ولكنها مجادلات لا تنفي إطلاقًا عمق صلات هذه الحضارات بعضها ببعض منذ فجر تاريخها البعيد2. وذلك ما سوف تناقشه الفصول التالية في سياق بحثها لمراحل التطور في كل حضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم على حدة.