سليم طويل، ثم ما شهد به من استمرار المشاحنات الداخلية بين أمثال البابليين وجيرانهم الآشوريين على الرغم مما كان بينهما من صلة الجنس وقرب الجوار ووحدة الديار.
واتصلت ببلاد النهرين من الغرب والجنوب صحراوات وبوادي واسعة لم تخل من نفع كبير ومن متاعب كثيرة في الوقت نفسه. فكان من وجوه الخير فيها أن قامت على أطرافها أسواق تجارية رائجة، وخرجت منها هجرات سامية كبيرة نزلت أراضي العراق القريبة منها على فترات متقطعة، وكانت تشتد على أهلها الزراع في بداية اندفاعها ثم لا تلبث أن تطمئن بعد ذلك إلى أسلوب معايشهم وتكفل التجديد في دمائهم وتؤدي إلى التنويع في حضاراتهم، بل ونجحت أحيانًا في ضم شملهم وتوسيع حدودهم تحت راية زعمائها، كما فعل الأكديون الساميون الذين حققوا وحدة معظم العراق لأول مرة في القرن الرابع والعشرين ق. م، ثم اتسعوا بنفوذه الخارجي لأول مرة في تاريخه. وقلدهم بعد ذلك البابليون الساميون. كما أن بعض من عاشوا في واحات البوادي المتناثرة بين العراق وبين الشام ظلوا من أدوات الاتصال التجاري والتبادل الحضاري بين بلاد النهرين وبين ما أحاط بها من مواطن الحضارات القديمة الأخرى. ومعنى ذلك كله أن انكشاف حدود العراق للهجرات السامية الصحراوية لم يكن شرًّا كله "على خلاف ما تصفه به عادة أغلب المؤلفات التاريخية الحديثة".
ولكن صحراوات العراق وبواديه ظلت من وجه آخر شحيحة في مواردها الطبيعية من المعادن والأحجار، ولم تجد بما جادت به الصحراوات المصرية منهما. كما ظلت حوافها المطلة على أرض الزراعة تتطلب جهدًا عسكريًّا متصلًا لمراقبة تحركات وتحرشات قبائلها البدوية الرعوية التي لم تكن تنقطع.
وجاور بلاد العراق من الشرق شعب كبير قوي لا يقل عن شعبها قدمًا وحضارة وطموحًا، ألا وهو شعب عيلام في هضبة إيران. وكان من منطق الحوادث ألا ينقطع التنافس بينهما لاتصال الحدود واختلاف الجنس وتضارب المصالح وشهوة الغلبة, وبلاد العراق بلاد قارية داخلية ليست لها سواحل بحرية غير سواحل الخليج العربي في مناطقها الجنوبية، وأدى هذا بها إلى أن تتطلع دائمًا إلى مخرج غربي على ساحل البحر المتوسط يخدم مصالحها، سلمًا أو حربًا.
وعوضت المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية سهول العراق القريبة منها ببعض ما أعوز غيرها من المواد الأولية لا سيما الأحجار، لولا أن شعابها كثيرًا ما اجتازتها هي الأخرى هجرات آرية رعوية كاسحة، وكثيرًا ما جاست في وديانها أقليات متفرقة خشنة عز على أفرادها أن ينسجموا في معايشهم وعاداتهم مع الزراعين العراقيين المستقرين على السهول، وعز عليهم التوطن بسهولة معهم. وترتب على ذلك أنه كثيرًا ما فاجأت هذه الأقليات وتلك الهجرات دويلات العراق المتحضرة المعاصرة لها بين كل حين وآخر وقطعت عليها نضجها السياسي وحرمتها نعمة الاستقرار الطويل. وينطبق ذلك على ما فعلته هجرات الجوتين والكاسيين والحوريين والميتانيين فصلًا عن غزوات العيلاميين والخاتيين "الحيثيين" على التوالي.
ومرة أخرى لم تكن الهجرات الآرية التي نزلت أرض العراق شرًّا كلها، فقد توفرت لها جوانب أخرى