والهمّة التي تكون عند طلاب العلم لا بدّ أن تكون منضبطة على ضبط ما أراده أهل العلم، بمعنى أن الهمّة قد تكون منطلقة عند طالب العلم، يريد أن يكون عالما، يريد أن يكون ضابطا للعلم الشرعي، ونحو ذلك، ولكن تجده عند التطبيق يخالف تلك الهمّة، لا يمكن أن يريد طالب العلم أن يكون عالما واعيا للفقه والحديث والتفسير ونحو ذلك ثم لا يعطي للعلم كلّه؛ ولذلك اتفقوا على أن العلم إذا أعطيته كلّك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعض البعض؟ لن تأخذ منه شيئا البتّة، يعني إذا أعطيت العلم كلّ وقتك صباحا ومساء تنال شيئا من العلم، قليل؛ لأن العلم لا يحيط به أحد، حينئذ إذا أعطيته بعضك أو بعض بعضك _يعني بعض الوقت_ إذن لن تنال شيئا البتة.
ولذلك نقول الوصية في مقدمة شرح هذا الكتاب أن يعتني طالب العلم بحفظ وقته ولا سيّما في مثل هذه الإجازات، طالب العلم قد يكون متفرّغا نوعا ما هذه الثلاثة أشهر _تزيد أو تقل_ وإذا عمرها بعلم شرعي وتحصيله حينئذ سينال حظا وافرا، ولا يكن همّ طالب العلم كالعوام، سهر اللّيل للصباح ونوم النهار ثم لا يحصّل، تمرّ عليه الأيام والساعات والدقائق ولم يحفظ شيئا ولم يُنهِ شيئا، ولا فرق بين طالب العلم والعوام في مثل هذه المسائل, الوصية أن يحفظ طالب العلم وقته، وأن يجعله في العلم؛ إذ العلم أفضل وأحسن وأجمل ما تعمر به الأوقات، ولذلك قيل: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"؛ فالذي تحسنه من العلم الشرعي هو قيمتك وإلّا كنت كالبهيم؛ لأن الله (عزّ وجل) جعل في الإنسان عقلا يدرك به الحقائق ويميز بين الحق والباطل، وأنت ما خلقت في هذه الحياة إلّا من أجل تحقيق العبودية لله تعالى، قال عزّ وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، والعبادة توقيفية، طريقها الوحي، والوحي والعلم به هو العلم الشرعي، وإذا لم يكن علم حينئذ كيف تعلم العلم الشرعي؟ وإذا لم تعلم العلم الشرعي حينئذ كيف تحقّق العبودية لله _عزّ وجل_؟ ولذلك نصّ ابن القيم (رحمه الله تعالى) على أن من أجمل ما يقرب به فضل العلم أن أهل العلم أجمعوا على أن العبادة لا تصح إلّا بتحقيق شرطين اثنين، وهما الإخلاص والمتابعة، وكل منهما لا يمكن أن يتحقق إلّا بالعلم.
فما هو الإخلاص؟ وما حقيقة الإخلاص؟ وما هي ضوابطه؟ وما هي عوائقه؟
هذا لابدّ من علم شرعي، ولابدّ من نظر في كتاب وسنة، وكذلك المتابعة للنبي (صلى الله عليه وسلم) كيف تتحقق؟ كيف تصلي؟ كيف تزكي؟ كيف تصوم؟ كيف تحجّ؟ كيف تدعو إلى الله _عزّ وجل_؟
كل هذه متعلقة بالعلم الشرعي، وقوله (صلى الله عليه وسلم) في ذلك ميزان: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"؛ إذن العلم الشرعي يتحقق به صحّة كل عبادة، تصور أنك تعبد الله _عزّ وجل_ صباح مساء، والإنسان المكلّف بالأوامر والواجبات العامة، فروض العيان أو فروض الكفايات أو المستحبات= لايمكن أن يتحقق ذلك إلّا بالتحقق بالعلم الشرعي؛ إذن هذا يدل على أن العلم الشرعي مطلب وغاية.