من دقق في القولين السابقين يلحظ أن الخلاف بينهما لفظي فالمنع إنما يتجه لوصف جميع الأحكام الشرعية بأن فيها مشقة وأن ذلك شرط لكي يصح نسبتها للشرع، والإثبات إنما يتجه لكون بعض الأحكام الشرعية فيها نوع مشقة وهي المشقة العادية كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة ونحو ذلك.
وقد اتفقا على خروج المشقة العظيمة التي تتجاوز الحدود العادية والطاقة البشرية السوية، كالتي تؤدي إلى هلاك أحد الضرورات الخمس، فنحو هذه المشقات إنما هي مرفوعة عن الأمة، ولم يكلفنا الله بها، بل هي موجبة للرخصة والتخفيف كنحو إباحة التيمم للخوف من الاغتسال للجنابة من شدة البرد، ووجوب الفطر لكن خاف على نفسه التضرر بالصوم، ونحو ذلك مما هو معروف في محله.
قال سعود الزمانان: (يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير، فترى بعض الجهلاء يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله، حتى يتحقق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " أجرك على قدر نصبك "، ولحديث جابر في صحيح مسلم قال:" خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفي رواية - فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا - "
والذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي:
أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: