ككثير من الأعاجم تتوفر دواعيهم على المنطق والفلسفة والكلام، فيتسلطون به على أصول الفقه، إما عن قصد، أو استتباع لتلك العلوم العقلية، ولهذا جاء كلامهم فيه عريا عن الشواهد الفقهية المقربة للفهم على المشتغلين، ممزوجا بالفلسفة، «وعكسه» يعني: الفروعي غير الأصولي «والنحوي في مسألة مبناها على النحو» أي: تنبني عليه، كمسألة استيعاب الرأس بالمسح، المبنية على أن الباء للإلصاق، أو التبعيض، ومسائل الشروط في الطلاق، ومسائل الإقرار، نحو: له علي كذا وكذا درهما، أو درهم بالرفع، أو الجر غير درهم، على الوصف أو الاستثناء وأشباه ذلك. «ففي اعتبار» قول هؤلاء «الخلاف في تجزيء الاجتهاد».
ومعنى ذلك: أن الاجتهاد هل يجوز تجزئته؟ بمعنى أن يكون الشخص مجتهدا في مسألة من المسائل دون غيرها، فإن أجزنا ذلك، اعتبر قول هؤلاء، لأن كلا منهم وإن لم يكن أهلا للاجتهاد في جميع المسائل، لكنه أهل للاجتهاد في بعضها، مثل أن يبني الأصولي وجوب الزكاة على الفور على أن الأمر على الفور، ونحو ذلك، والنحوي مسائل الشروط في الطلاق على باب الشرط والجزاء في العربية، وإن لم يجز تجزيء الاجتهاد، لم يجز ذلك، والأشبه القول بتجزيء الاجتهاد، إذ لا يمتنع وجود أهلية الاجتهاد كاملة بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعض ... وله: «والأشبه» يعني بالصواب وما دل عليه الدليل «اعتبار قول الأصولي والنحوي فقط» دون الفقيه الصرف «لتمكنهما» يعني الأصولي والنحوي «من درك الحكم» أي: من إدراكه، واستخراجه «بالدليل» هذا بقواعد الأصول، وهذا بقواعد العربية، لأن علمهما من مواد الفقه وأصوله، فيتسلطان به عليه؛ ولأن مباحث الأصول والعربية عقلية، وفيهما من القواطع كثير، فيتنقح بها الذهن، ويقوى بها استعداد النفس لإدراك التصورات والتصديقات، حتى يصير لها ذلك ملكة، فإذا توجهت إلى الأحكام الفقهية، أدركتها، إذ هي في الغالب لا تخالف قواعد الأصول العقلية إلا بعارض بعيد، أو تخصيص علة، ومع ذلك فهو لا يخفى على من مارس المباحث الأصولية ... ).