وقوله في رواية: "فلا تتسع"، وفي رواية "فلا تتوسع" بمعنى واحد إلا أن بين الناس فرقًا من جهة التركيب، لأن تتسع مضارع اتسع، وتتوسع مضارع توسع، وأصل الكلمة: وسع يسع سعة، والسعة: خلاف الضيق واتسع تفعيل منه.
وفي إيراد الشافعي هذه اللفظة في الرواية الثانية: دليل على المنع من رواية الحديث بالمعنى، لأنه لا فرق بين تتسع وتتوسع إلا من حيث التركيب، ولما قال الشافعي في الرواية الثانية مثله إلا أنه قال: "يوسعها ولا تتوسع" دل ذلك على ما قلناه، وإن كان الشافعي يجيز رواية الحديث بالمعنى وعليه جماهير العلماء، وإنما ذكرنا هاهنا ما ذكره: محافظة على لفظ الحديث، ولا شك أنه الأولى عنده وعند كل من أجاز رواية الحديث بالمعنى، فإن رواية لفظ الحديث أجدر، والجائز شيء والأولى شيء آخر، وهذا مما يدلك كمال دين الشافعي -رحمه الله تعالى- وقوي علمه، وأنه لم يسامح نفسه بإهمال السين من الجائز حيث قال: "مثله"، وكان في الرواية الثانية ما يخالف لفظ الأولى وإن كان بمعناه، وعلى هذا القدم كان السلف الأول من العلماء؛ يحاسبون أنفسهم على ارتكاب الجائزات، واستعمال المباحات، ويؤاخذونها بها، ألهمنا الله وإياكم الاقتداء بهم، والسلوك في محجتهم بمنِّه وكرمه.
وهذا الحديث: ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا للكريم المنفق والبخيل الممسك، فجعل مثل الكريم: مثل رجل لبس درعًا سابغة، فإنه أول ما يلبسها تقع على صدره وقدمه فتستمر لسعتها نازلة، حتى تستر جميع بدنه وتحصنه من الأذى بسترها جميع أعضائه، وأنها لطولها تنجر على الأرض فتعفو أثره.
وجعل مثل البخيل: مثل رجل لبس درعًا ضيقة، لا تجول فيها يداه ولا يمكنه إدخالهما في كمي الدرع لضيقها, ولا تتسع لإدخال رأسه في جيبها لضيقه عنه، فهي أول ما تقع على رقبته وتلزم مكانها.
وحقيقة المعنى: أن الكريم إذا هم بالنفقة اتسع لها صدره وطاوعته يداه،